اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 "الفصل التاسع"
 

أمريكا

بين هنود الأمس و عرب اليوم

تكثر التحليلات والنظريات التي تعالج بمبادئ السياسية الخارجية الأمريكية ما بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر من عام 2001 لتوحي في غالبيتها وكأن هذه السياسة قد تغيرت أو شهدت تحولا ما يختلف عن المبادئ المتبعة منذ قيام الولايات المتحدة على الأراضي الأمريكية بعد إبادة 112 مليون إنسان من الهنود الحمر ومحو أكثر من أربعمائة ثقافة من سجل الحضارة الإنسانية التي ما زالت تدين لهم في ميادين الزراعة والصناعة والتشريع والطب والعمران والاكتشافات الجغرافية وغيرها.

تتحدث هذه النظريات بحماس شديد عن أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر وكأنها شكلت منعطفا تاريخيا في مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية التي أبادت 40 مليون من مواطني القارة الأفريقية طوال ما يزيد عن مائتي عام من نظام العبودية الذي ساهم بفعالية وما زال يحقق جزء هام من التقدم الاقتصادي الأمريكي على حساب سياسة التمييز العنصري التي يتعرض لها السود في الولايات المتحدة والغرب وحتى في القارة الأفريقية نفسها التي ما زالت تستنزف ثرواتها البشرية عبر نزاعات داخلية تغذيها الولايات المتحدة بشكل أساسي بهدف تجزئتها وإضعافها وإحكام السيطرة على جميع مواردها.

وتسهب هذه التحليلات في الحديث عن تفاصيل السياسة الخارجية الأمريكية الراهنة لتبلغ في ذروتها حد اعتبار العدوانية الأمريكية الراهنة مجرد ردة فعل على أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر، وكأن المعارك التوسعية التي تعرضت لها المكسيك وهي فتية وحديثة الاستقلال بعد لتستولي منها على مساحات ضاعفت مساحة الولايات المتحدة الأمريكية، وكأنها كانت تحتاج إلى حجة التمرد الذي أعلنته حفنة من المستعمرين الأمريكيين على السيادة المكسيكية في تكساس، كي تنطلق لاحتلال أكثر من نصف الأراضي المكسيكية والاستيلاء على العاصمة وإجبار سلطاتها على توقيع معاهدة تتخلى بموجبها عن الأراضي الشاسعة التي احتلها الجيش الأمريكية وتعترف بحدود الأمر الواقع التي ما زالت قائمة حتى اليوم.

ثم يكتشف البعض أن هناك تباينات في الآراء والمواقف بين رجالات واشنطن حول سبل تطبيق السياسة الخارجية الأمريكية دون العودة إلى جوهر هذه السياسة وتطبيقاتها التي حاولت من خلالها مع بدايات القرن الماضي ضم عدد من بلدان العالم كان بينها الفليبين وهواي وكوبا وبويرتو ريكو، فأفلحت بضم هواي أولا ثم تبعتها بويرتو ريكو اللتان أصبحتا جزءا من الولايات المتحدة، دون أن تنسحب من قواعدها العسكرية في كل من الفليبين وكوبا، خصوصا هذه الأخيرة التي تخضعها لحصار جائر منذ ما يزيد عن أربعين عاما.

وقد لا يكفينا الحبر والورق وحتى العمر أيضا لإحصاء مآثر السياسة الخارجية الأمريكية في هيروشيما ونغاساكي وإندونيسيا وكوريا وفيتنام وكمبوديا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا أو حتى في أوروبا نفسها، هذا ناهيك عن حروبها الاستنزاف الدائمة التي تشعلها في الشرق الأوسط عبر أسطولها الحربي أو من خلال الكيان الصهيوني كموطئ قدم متقدم لها في المنطقة.

رغم هذا الوضوح الناصع في سواد سيرة وسلوك السياسة الخارجية الأمريكية على جميع مراحلها وفي بلدان العالم أجمع، قد نجد مفارقات كبيرة بين وقائع هذه السياسة وما يتم تداوله من أفكار بعضها ساذج بريء من السياسة وبعضها الآخر مدسوس مشحون بالسم حتى الثمالة والترنح وفقدان الذاكرة والصواب والهذيان والغياب عن الواقع والسمع كليا.

ينطلق البعض من تصريحات صدرت عن كبار مسئولي الإدارة الأمريكية خلال العامين الماضيين لتحديد تصور جديد لمبادئ الأمن القومي الأمريكي، أضف إلى ذلك قضية العراق وما فرضته من جدل واسع داخل الأوساط السياسية والشعبية الأمريكية حول وجهة السياسة الخارجية الأمريكية وقد قدمت هذه التحليلات محاولات مختلفة لفهم مسار السياسة الخارجية والأفكار الكبرى التي تسيطر على صانعيها والمهتمين بها خلال الفترة الحالية، لتوحي بوجود صراع لم يحسم نهائيا بين أزواج ثلاثة من الأفكار والمبادئ الكبرى المتناقضة، وهم فكرة العزلة في مقابل التدخل، وفكرة العمل الفردي في مقابل العمل الجماعي، وفكرة الأخلاقية في مقابل الواقعية.

تتأرجح هذه الفذلكة السياسية الشبيهة بفذلكة الميزانيات السنوية المهتزة للبلدان المتخلفة بين أفكار قديمة-حديثة تسود أجواء المفكرين الأمريكيين منذ القرن الثامن عشر وهي تطرح باستمرار وكأنها قضية البيضة والدجاجة، دون أي أثر ملموس على الأرض، إذ أن العزلة الأمريكية أصلا طرحت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين أرادت واشنطن إبعاد القوى العظمى عن أمريكا اللاتينية كي تنفرد وحدها بالهيمنة على مواردها الاقتصادية وثرواتها الطبيعية فكانت النتيجة ما نراه اليوم من سيطرة على غالبية المرافق الاقتصادية الحيوية في هذه البلدان وما تشهده حتى اليوم من أزمات مالية عادة ما تتوج بشراء المزيد من أراضي ومؤسسات ومرافق هذه الدول، كما يحدث تحديدا في المكسيك والأرجنتين وبوليفيا وغيرها. أي أنه لم يبق من مبدأ العزلة القديم الجديد إلا مسألة تحويله إلى أداة يتم من خلالها شحن الرأي العام الأمريكي وإقناعه بضرورة تحمله أعباء المغامرات العسكرية الأمريكية في الخارج.

رغم كل ما سبق يسهب المحللون المعاصرون بوصف الأمريكيين بأنهم كانوا تاريخياً أكثر ميلاً للعزلة على المستوى الدولي، ولكن القرن العشرين وخاصة في الفترة التالية للحرب العالمية الثانية شهد تدخلاً واندماجاً أمريكياً متزايداً في النظام العالمي وقضاياه، علما أن الوقائع التاريخية تؤكد أن واشنطن كانت تركز حتى بداية القرن العشرين على إخراج حلفائها الأوروبيين من بلدان أمريكا اللاتينية وحين ضمنت ذلك انطلقت في الحرب العالمية الأولى إلى الساحة الدولية ثم أخذت تعمل على تعزيز نفوذها في العالم بعد إضعاف القوى الأوربية العظمى عبر الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتفرض نفسها على هذه القوى بحجة متطلبات الحرب الباردة، كما تحاول الآن متابعة هذه السياسة بحجة متطلبات الحرب على الإرهاب.

أي أن مبدأ العزلة لم يعد يؤثرً نهائيا على عقلية وتفكير صانع القرار السياسي الأمريكي إلا من باب التعبئة والتحريض والضغط المستمر على مواقف حلفائه وشركائه الدوليين بما في ذلك حلفاء أمريكا الأوروبيون أنفسهم، هذا من جهة أما من جهة أخرى فيتم إثارته لمواجهة عدم رغبة المواطن الأمريكي العادي في تحمل الكلفة العالية لاتباع سياسة خارجية عدوانية، خاصة ما ينجم عن هذه من أعباء اقتصادية وتكاليف بشرية في أرواح الجنود الأمريكيين.

هنا يدعي البعض من أصحاب الأفكار السياسية الساذجة والبريئة أو المدسوسة أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسمت هذا الجدل في صالح أنصار التدخل، "لأن هجمات  11سبتمبر أثبتت للأمريكيين انهم ليسوا بعزلة عن العالم وما يحمله من أخطار"، كما أنها "فرضت" على أمريكا حرباً طويلة ضد الإرهاب تحتاج فيها إلى مساندة العالم ولعب دور عالمي نشط لكي تستطيع تحقيق النصر فيها.

إذا سلمنا بأن الهدف من طرح مبدأ العزلة في أسواق التداول الإعلامي الأمريكي هو تحريضي ضاغط كما أشير يصبح الادعاء القائل بأن هذه الحرب فرضت على أمريكا فارغا من مضمونه إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار الاستحقاقات الداخلية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية العالمية عموما والخانقة في الولايات المتحدة على وجه الخصوص، والتي تتطلب جرف الأنظار عن مظالم البنية الاقتصادية الأمريكية حيث تسيطر الأقلية فيها على غالبية الثروات بينما ترزح نسب متزايدة من السكان تحت وطأة ظروف معيشية قاسية.

كما يبقى الادعاء القائل بأن هذه الحرب فرضت على أمريكا فارغا من مضمونه إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الفئات الرأسمالية الممسكة في زمام السلطة في واشنطن تجد في المنطقة العربية عموما ثروات طبيعية هائلة ومصادر طاقة حاسمة ستتمكن عند السيطرة عليها من التغلب على منافسيها في الساحة العالمية وبالتالي زيادة ثرواتها مقابل إفقار مساحات أكبر من هذا العالم.

تعكس أميركا على الخارج صورة سلطة وحيدة الدماغ، ماثلة بشخص رئيس الولايات المتحدة، وهو أسير جماعات المصالح المالية والمجمع العسكري- الصناعي واللوبيات (Lobbies) وأجهزة الأمن (CIA NSA FBI) وعصابات الجريمة المنظمة وهو يحاول الحفاظ على بعض التوازن بين هذه المجموعات القوية. وقد تمكنه زعامته في السياسة الداخلية من تنفيذ بعض المسائل والقضايا المحددة والتي لا يستطيع المبالغة فيها إلى مستوى خروجه عن إملاءات هذه القوى، لأنها بهذه الحالة ستجعله يدفع الثمن غالياً. لهذا يركز مختلف الرؤساء على أداء دور محدد في السياسة الخارجية تجاه العالم أجمع، تكمن غايته الأساسية في اعتماد استراتيجية مترابطة لاستغلال الأمم واستعبادها.

رغم عدم استمتاع الولايات المتحدة اليوم بهيمنة مطلقة على العالم أجمع من الواضح أنها تبذل جهدا لبلوغ هذا الهدف. ولا شك أن هذا يستلزم منها عدة تحالفات خارج أميركا. فبعد اكتساب الأميركيين مهارة فريدة في التخويف والإغواء وفرض الأمر الواقع توصلوا إلى بلورة المشهد الجيوستراتيجي تدريجيا حول ميولهم المستمرة نحو فرض إملاءاتهم على جميع الأمم ولو بسبل وأدوات مختلفة.(121)

وقد أطلقت ادعاءات الحرب التي فرضت على واشنطن إبان عدوانها على أفغانستان بحجة أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر والتي كان الهدف الحقيقي منها الوصول إلى بحر قزوين بثرواته النفطية الهائلة والمساهمة في إضعاف النفوذ الروسي المترامي الأطراف هناك ومحاصرة النموذج الإيراني ومواجهة العملاق الصيني الواعد بمنافسة تجارية قاسية مع البلدان الآسيوية المجاورة التي أعادت انتشارها العسكري فيها بعد غياب فرض عليها إثر هزيمتها البشعة في فيتنام وإجلاء قواعدها في الفليبين ومناطق مجاورة أخرى.

وقد كشفت الحروب الأمريكية الحديثة عن جانب جديد من سياستها الخارجية التي تكمن في رغبتها بلعب دور أكثر نشطا وفاعلية ونفوذا على الساحة الدولية دون تحمل أعباء هذه المكاسب وكلفتها العالية جدا، وقد نستشهد بالحرب الأمريكية على العراق عبر تحالف عالمي وعربي دفع كلفتها بينما حصدت واشنطن وما زالت تحصد ثمارها الاقتصادية والعسكرية عبر مشاريعها الاقتصادية وقواعدها العسكرية التي انتشرت في أرجاء الخليج. ينطبق هذا أيضا على حربها في أفغانستان التي شنتها عبر هيئة الأمم وحركت فيها قوات دعم دولية لترسخ في النهاية نفوذها وتثبت قواعدها العسكرية، وتحمل أعباء الحملة لحلفائها دون أن تكترث بعد ذلك بعملية إعادة بناء أفغانستان والذي وعدت العالم به والمفترض أن يشكل بحد ذاته ضمانة أساسية لحماية أفغانستان من تجارب مماثلة لتجربة الطالبانً.

أفاق بعض هؤلاء المحللين على ما يعتبرونه تغيرا مفاجئا السياسة الخارجية الأمريكية يعتمد على ما تثيره الصحافة الأمريكية الكبرى من زوابع حول فكرتي الانفراد والعمل الجماعي، إذ تعتقد هذه الحفنة من المحللين في هذه النقطة أن الولايات المتحدة وخاصة في حكومة الرئيس جورج دبليو بوش تميل بوضوح أكبر نحو التحرك الخارجي الفردي وتحاول عدم انتظار موافقة المجتمع الدولي ومؤسساته، وهم يفسرون التحرك الأمريكي في هذا الاتجاه بعدم الثقة بالآخرين أو بجدوى الاعتماد عليهم، ويفسرونه أيضاً بطبيعة القوة العسكرية الأمريكية في الفترة الراهنة إذ تعتبر بلا منازع القوة العسكرية رقم واحد على الساحة الدولية، الأمر الذي يمكن أمريكا من التحرك العسكري والسياسي على الساحة الدولية دون استشارة أحد.

يرى مناصرو العمل الجماعي أن الولايات المتحدة لن تستطيع تحمل كلفة تهميش دور المنظمات الدولية الموجودة في عالم اليوم وعلى رأسها الأمم المتحدة، والدور الذي تلعبه وتمثله هذه المنظمات على الساحة الدولية، خاصة وأن تهميش دور هذه المنظمات والمجتمع الدولي سوف يعطي الجماعات والدول المعادية للولايات المتحدة فرصة أكبر للعمل وسوف يحد من قدرة أمريكا على الوصول إلى هذه الأطراف والإطاحة بها، بالإضافة إلى ذلك يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الولايات المتحدة قد تعتبر القوة رقم واحد على الساحة العسكرية ولكن الوضع على المستوى الاقتصادي مختلف جدا إذ  تحتاج أمريكا إلى العالم لتحميله أعباء عملياتها العسكرية في الدول والمناطق التي تريد الولايات المتحدة اجتياحها.

هنا نجد أنفسنا أمام كلمة حق يراد بها باطل، لا شك أن هناك بعض التباينات المتعلقة بضرورة إشراك المؤسسات الدولية في المغامرات العسكرية الأمريكية في العالم، إلا أن هذه التباينات لا تنبع من مبدأ الحرص على المشاركة الدولية في قضايا العالم المعاصر بل هي تعبير عن ضرورة التروي لتوريط العالم أجمع في المغامرات الأمريكية وحماقاتها فيشاركونها بالأعباء الاقتصادية ويبررون ساحتها أخلاقيا بينما تحصد وحدها ثمار هذه الغزوات في حال نجاحا على الأرض.

يجمع هؤلاء المحللين على كولن باول كراعي اتجاه العمل الجماعي داخل الإدارة الأمريكية الراهنة، ويهللون لموقفه من حرب أمريكا ضد العراق ويزغردون لإقناعه للإدارة الأمريكية بضرورة الذهاب إلى الأمم المتحدة والحصول على القرار 1441 من مجلس الأمن أولا قبل التحرك العسكري ضد العراق معتبرين ذلك نموذجاً لانتصار أصحاب اتجاه العمل الجماعي، علما أن هذا ليس إلا انتصار وهمي محدود نظراً لقوة وتعدد ممثلي توجه العمل الفردي داخل الإدارة الأمريكية وعلى رأسهم أركان الرئيس الأمريكي ذاته الذي لن يتردد باتخاذ المبادرات العسكرية اللازمة حين تسنح له الفرصة بذلك. أما مواقف كولن باول فهي لا تتعدى مجرد السعي لتبرير العدوانية الأمريكية وإضفاء الشرعية الدولية عليها.

يركز الخط الثالث الذي تعمل عليه وسائل الإعلام الرئيسية الأمريكية على يعتبره البعض فكرتا الأخلاقية والواقعية، وتدعي الفكرة الأولى أن الولايات المتحدة في سياستها الخارجية ستولي اهتماما متزايدا بالقضايا الأخلاقية مثل حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية والحرية في العالم، وأن حرب أمريكا الراهنة ضد الإرهاب لن تغفل هذه المبادئ. أدهى ما في هذه الادعاءات أنها تصدر عمن يعرفون بالمتشددين في البيت الأبيض والذين عبرت عنها تصريحات مستشارة الأمن القومي الأمريكي السيدة كنودليزا رايس حين قالت في أكثر من مناسبة بأن أمريكا تهدف إلى إحلال الديمقراطية في العالم الإسلامي.

رغم وضوح النفاق والادعاء فيما يعتبره المحللون الأمريكيون فريق الأخلاق في الإدارة الأمريكية إلا أنهم يروجون لما يعرف بالواقعيين ممن يهتمون بتحقيق مصالح الولايات المتحدة بشكل أساسي من خلال النظر إلى العالم وإلى الساحة الدولية من خلال منظور صراع القوى لا صراع المبادئ، ويرفض هؤلاء الإفراط في الحديث عن الأهداف الفكرية والمثالية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، وينتمي إلى هذا المعسكر عدد كبير من صناع السياسة الخارجية القدامى والحاليين، وعلى رأسهم شخصيات مثل هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي السابق، وديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي الحالي، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الحالي.

هنا يثير المحللون زوبعة حول التباين القائم بين ما يمكن تسميته بالاتجاه الأخلاقي على الرغم من ارتباطه بمن يسمون بالمحافظين الجدد الذي يمثلون تكتلاً قوياً داخل الحكومة الأمريكية الراهنة، إلا انه يعتبر كما يقال ضمن هذه الحالة في موضع أكثر ضعفاً من التيار الواقعي ذلك أن سياسة الولايات المتحدة الخارجية تعاني من تناقضات أخلاقية كبيرة وعديدة أهمها موقف أمريكا المؤيد للصهاينة في قضية الشرق الأوسط والذي لا يترك مجالا للشك في أن فاقد الشيء لا يعطيه، فما بالك إن كان هذا الشيء أخلاقا؟؟

ابرز ما في وجهات النظر والتحليلات هذه والتي توصف بالمعتدلة والرصينة هو أنها وفي مجموعها تخلص إلى استنتاجات لا تبتعد كثيرا عن بعضها البعض أو عن المنحى التاريخي للسياسة التوسعية الأمريكية إذ تؤكد تركيز الولايات المتحدة المتزايد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر  2001على قوتها العسكرية كوسيلة لتحقيق أهدافها الخارجية دفعها إلى توجه أكثر عدوانية على الساحة الدولية، رغم ما تراه من أن متطلبات النجاح في حملاتها المعلنة ضد الإرهاب يفرض عليها الاعتماد المتزايد على دول العالم في مراحل مختلفة من هذه الحرب، وخاصة في تتبع الجماعات المطلوبة من قبل الولايات المتحدة، التي تستخدمها حجة لتعزيز نفوذها العسكري في هذه المنطقة أو تلك كما فعلت في الفليبين إلى حيث تمكنت من إدخال قواتها العسكرية بحجة تدريب الوحدات المحلية تحايلا على قرار البرلمان الفليبيني الذي يمنع إقامة قواعد أجنبية على أرض بلاده.

كما تصر الإدارة الأمريكية على المبالغة في عدوانيتها وفرض إرادتها على الدول إلى حد قد لا تسمح به ظروف بعض البلدان الداخلية بتحمل مزيد من الضغوط ما قد يدفعها إلى الدخول في حالة أشبه بحالة التعاون اللفظي فقط وليس الفعلي والمباشر، كما حدث في اليمن عندما قامت طائرة أمريكية في تشرين الثاني يناير من عام 2002 بقصف سيارة يمنية قالت أن فيها أحد زعماء القاعدة. يشكل هذا النوع من "عدم التعاون العام الغير عنيف" مبدأ معروفا في علوم حل النزاعات بالطرق السلمية، قد يزيد من عدد دول العالم الخاضعة للضغط والتدخل الأمريكي المتفاقم فلا تعلن هذه معارضتها صراحة للولايات المتحدة، بل تكتفي بإعلان تعاونها من ناحية وتتخذ في الواقع موقفاً سلبياً غير مؤيد أو معارض تاركة للولايات المتحدة مهمة التدخل في كل مكان في العالم لملاحقة الجماعات التي تعتبرها معادية لها.

هناك مجموعة من العوامل الموضوعية الأساسية التي تزيد من السياسة العدوانية الراهنة للولايات المتحدة بالإضافة إلى عضوية اعتمادها على السياسة التوسعية كعماد محوري لكيانها أصلا. تنجد على رأس هذه المجموعة من العوامل الظروف الداخلية الأمريكية وما تعانيه من أزمات اقتصادية واجتماعية وترهل نسبي في التقدم التكنولوجي وتمركز أحجام أكبر من الثروات في أيدي أعداد أقل من أصحاب النفوذ الساعين دائما لزيادة إمبراطورياتهم المالية بتوسيع الأسواق لترويج منتجاتهم والاستيلاء على مزيد من الموارد الطبيعية للشعوب على حساب إفقارها كما يحدث في مناطق نفوذها الرئيسة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط على وجه الخصوص.

العامل المكمل للظروف الأمريكية الداخلية هو المتعلق بظروفها المتردية على المستوى الدولي حيث تواجه منافسة لا يستهان بها من قبل أوروبا وروسيا من جهة ومن قبل اليابان والصين والمجموعة الصناعية الأسيوية من جهة أخرى خصوصا بعد انتهاء مبررات الحرب الباردة وتحالفاتها.

ساهم انتهاء الحرب الباردة أيضا بتوفير قطاعات هائلة من أجهزة التجسس والتآمر الموجهة سابقا ضد بلدان المنظومة الاشتراكية ليصبح بالإمكان تسخير خبراتها وإمكانياتها وباعها الطويل للتوجه نحو عدو تختاره كعادتها من الأشد ثراء وضعفا في آن معا.

هذا ما دفعها إلى بحر قزوين الواعد بأغنى مخزون للطاقة في العالم، خصوصا وأنه يقع في منطقة استراتيجية تحيط به دويلات تحتاج فيها واشنطن إلى تثبيت قواعد عسكرية دائمة، كما هو حال أفغانستان وباكستان وأوزباكستان وأذربيجان وتركمانستان، التي تشكل مواقعها المحيطة ببحر قزوين مكانة استراتيجية هامة تواجه من خلالها النفوذ الروسي في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وتحاصر الجمهورية الإسلامية في إيران، وتحد من المد التجاري الصيني في دول آسيا المجاورة. هذا إلى جانب تسهيل عودة الولايات المتحدة إلى الفليبين بعد أن أُجبرت على الخروج منها ومن المنطقة ككل إثر هزيمتها في فيتنام.

تعزيز مكانة الاتحاد الأوروبي وسعيه الحثيث لاتباع سياسات مستقلة ومنافسة للولايات المتحدة هو عامل آخر يدفعها إلى السعي لوضع اليد على عصب أساسي وهام يضمن لها التفوق على جميع الأصعدة وذلك من خلال سلاح الطاقة المتوفر بكثرة في المناطق العربية والإسلامية على وجه الخصوص، ما يحتم على الولايات المتحدة استهداف المنطقة عاجلا أم آجلا، بذريعة ضرب القاعدة والطالبان أو نزع السلاح العراقي أو جلب الديمقراطية إلى السعودية وبلدان الخليج، أي أن العراق لن تستهدف وحدها بل ستكر حبات المسبحة في الجزيرة العربية الواحدة تلو الأخرى وليس غريبا أن تستهدف هذه الأمة بجميع أطرافها من المحيط إلى الخليج.

أصبح من المعروف جدا بل والمتعارف عليه أن الولايات المتحدة تعتبر علنا أن الشرق الأوسط منطقة مصالح حيوية لها، هذا ما كانت تردده في جميع المحافل منذ عصر الحرب الباردة حيث كانت وما زالت ترفض تدخل أي قوة عظمى فيها ما يعيد إلى الذاكرة مبدأ مونرو في السياسة الخارجية الأمريكية المتعلقة بأمريكا اللاتينية والتي شكلت مقدمة أولى لما آلت إليه الأوضاع في جنوب القارة الأمريكية من تدهور اقتصادي وعدم استقرار اجتماعي وأمني وتبعية سياسية شبه كاملة لإملاءات واشنطن.

سنة 1823، حدد الرئيس مونرو من جانب واحد العقيدة التي حملت اسمه منذ ذلك الحين والتي تقدم القارة الجديدة بوصفها كلا، وبوصف الولايات المتحدة حاميتها بامتياز ودون منازع من أي قوة أوروبية عظمى. وهكذا تحولت هذه العقيدة عمليا إلى أحد الخطوط القائدة للدبلوماسية الأميركية. وليس من المدهش أن يصبح رجال الأعمال الأميركيون المهتمين الأولين بعقيدة مونرو. فالتجارة نشطة جدا مع أميركا اللاتينية ومربحة، والرساميل التي توظف فيها تجني أرباحا خيالية أدت في نهاية القرن الحالي وحتى يومنا هذا إلى إثراء الشركات الأمريكية وتوسيع النفوذ الأمريكي في الجنوب من جهة مقابل إفلاس هذه الدول وإفقار شعوبها من الجهة الأخرى. (122)

هل هناك عوائق أمام تطبيق هذه العقيدة في الشرق الأوسط؟

نستطيع القول دون أي تردد أن هذه العقيدة قد تصبح عما قريب أمرا واقعا في الشرق الأوسط إذا اتفقنا على أن الأزمات الأمريكية الداخلية ومناخ المنافسة الدولية الشديدة التي أتينا على ذكرها آنفا، يزيدان من عدوانية واشنطن ويدفعانها إلى التصرف بغطرسة لا سابق لها تجاه العرب والمسلمين منذ انتهاء الحرب الباردة، وإذا أضفنا إلى ذلك ما تعيشه المنطقة من استخفاف بحجم الغطرسة الأمريكية الراهنة وغياب شبه كامل لرؤية واضحة لحجم هذه التهديدات، وبالتالي عدم البحث عن السبل المناسبة لمقارعتها، دون أن يعني ذلك بالضرورة إعلان حرب مباشرة معها بل بتعزيز التماسك حول الثوابت الوطنية والقومية وبناء أسس متينة للتضامن الفعلي المشترك بين شعوب هذه الأمة.

والحقيقة أن الاتفاقات الثنائية والمعاهدات المشتركة والقواعد العسكرية التي تقيمها واشنطن على أراضي عد من الدول العربية لا يكبل استقلالية هذه الدول بل يشكل خطوة أولى نحو فرض الحصرية الأمريكية في التعامل معها، أي أنها قد لا تتمكن بعد الآن من تحديد خياراتها التجارية أو حتى علاقاتها الدبلوماسية في المستقبل. هذا ما رأيناه من تذمر في الأوساط الأوروبية من استفادة الشركات الأمريكية من الجزء الأكبر من عقود التجارة والأعمال التي وقعت مع دول الخليج بعد حرب الخليج.

هذه الامتيازات أصبحت قائمة حتى على أدنى المستويات في مجالات العمل هناك فالمواطن الأمريكي العامل في عدد من بلدان الخليج كمهندس أو حتى مجرد سائق بسيط يتقاضى عدة أضعاف ما يتلقاه المهندس أو أي موظف عربي كبير، ولو كان هذا خريج الجامعات الأمريكية نفسها.

والحقيقة أن الأمريكيين يعتبرون هذا حق طبيعي لهم في أي منطقة يبدءون بالسيطرة عليها تدريجيا أو أي جنس بشري يعتبرون أنهم متفوقون عليه، كما رأينا في إبادتهم لعشرات الملايين من الهنود في أمريكا واستمرارهم في تهميش هذه الشعوب حتى اليوم، أو ما رأيناه في استعبادهم للجنس الأفريقي الأسود والاستمرار في اضطهاده والتنكيل بأبنائه حتى يومنا هذا.

هناك من تأبى عليه نفسه أن نقارن أنفسنا بالهنود الأمريكيين أو السود الأفارقة، معتبرا أن حضارتنا أقدم وأقوى وأن جذورها تمتد عميقا في التاريخ، وقد لا يكتفي بكل ما قيل عن عمق الحضارات الإنسانية لدى الهنود قبل وصول الأوروبيين إلى هناك، وعن قدم التاريخ البشري في أفريقيا إلى درجة أنه يعتبر الأقدم في العالم، حتى أن علماء التاريخ البشري يجمعون اليوم على أن الإنسان الذي يسكن أوروبا اليوم قد جاء إليها أصلا من القارة الأفريقية نفسها.

ومن يعتقد بأن تاريخنا وحضارتنا وتقاليدنا وثقافتنا وعلى رأس هذا كله دياناتنا بعيدين عن دائرة الخطر فهو يرتكب خطأ جسيما يكفي لتصحيحه أن يسأل نفسه عن مصير أعرق المدن الإسلامية التي تأسست في الأندلس، يكفي أن يسأل عن مصير قرطبة ومكتبة طليطلة التي ترجمت جميع كتبها إلى اللغات اللاتينية والفرنسية وغيرها وانتشرت في أرجاء أوروبا لتشكل حافزا لأفكار عصر النهضة. أما أسباب الهزيمة فيها فكانت هي نفسها، النزاعات الداخلية والاستخفاف بالتهديد المباشر وعدم التوصل إلى صيغ من الوحدة والتماسك لرد الخطر عما تم بناءه عبر مئات السنين هناك.

وإن كان تاريخ الأندلس يمسنا من بعيد، وليس له صلة مباشرة بما نحن عليه اليوم من حالة دفاع عن النفس في عمقنا الجغرافي يجدر بنا إذا إلقاء نظرة سريعة على العوامل التي أسهمت في سقوط إنطاكيا مفتاح بلاد الشام الشمالي في أيدي الصليبيين في العقد الأخير من القرن الخامس الهجري في أجواء من الإحباط ومشاعر الهزيمة المشابهة جدا لما نعيشه اليوم، والذي نجم عن عدة هزائم مني بها المسلمون على أيدي الصليبيين من نيقية إلى طرطوس.

أما الأسباب الفعلية على الأرض فهي تكمن بغياب التعاون بين الأمراء السلاجقة حتى في حدود الحفاظ على سلطة كل منهم والناجم عن عمق الخلافات بينهم، كما أن النجدات التي وردت إلى ساحات القتال بعد سلسلة متواصلة من الاستغاثات لم تكن معززة بالأسلحة والعتاد بل ذات طابع شعبي غير منظم أو مدرب. هذا بالإضافة إلى الغياب التام والظاهر للخليفة العباسي المستظهر بالله والسلطان السلجوقي بركيارق فضلا عن الخليفة الفاطمي المستعلي. ما أدى في نهاية المطاف إلى سقوط إنطاكيا وبالتالي وقوع الشام بكامله في دائرة الخطر الصليبي الذي سرعان ما داهم بيت المقدس وقام بمذبحة أودت بحياة آلاف المسلمين والمسيحيين العرب هناك دون تمييز. (123)

والأسوأ من هذا كله هو أن عدم التضامن وتعزيز التعاون الداخلي في هذه المعركة أدى إلى استنزاف المنطقة طوال فترة قاربت الماءتي عام من السلب والنهب وعدم الاستقرار التجاري والسياسي في المنطقة بكاملها. ما يعني أن عدم تدارك التهديدات المحدقة بهذه المنطقة لن تردأ المخاطر عن أجيال من أحفادنا مهما بلغت الثروات التي يرثونها اليوم عنا.

أما إذا عدنا إلى ما يعنيه التهديد الأمريكي من مخاطر على حضارتنا فلا بد من التذكير بما ورد بالفصل المتعلق بالهنود للتعرف على أسلوبه في التسلل أولا وادعاءه الرغبة في التعايش السلمي ومن ثم التوسع تدريجيا بشتى السبل حتى يستولي على الأرض ويهيمن على الإنسان وحضارته كما فعلوا في هواي حيث ألغوا الحضارة الأصلية بكاملها لتحل الإنجليزية والأمريكية في كل معالم الحياة هناك.

إلغاء الحضارة والثقافة هذا أصبح على وشك الاكتمال في بويرتو ريكو آخر ولاية تنضم إلى الولايات المتحدة الأمريكية، علما أن تهديد الثقافات لا يقتصر على هذين البلدين فحسب بل وعلى الثقافة الإسبانية بكاملها في أمريكا اللاتينية حتى أن مفكري وأدباء الفرنكوفونية أخذوا يقرعون نواقيس الخطر الجاثم على صدور ثقافتهم. فما بالك بما سيحل باللغة العربية التي هي سفينة تحمل كل ما في ثقافتنا وحضارتنا من قيم ومبادئ إنسانية أسهمت في رفع صروح البشرية جمعاء؟

من عناصر التردي التي شهدته العربية في بدايات القرن الماضي تخلي تركيا وعدد من بلدان آسيا الوسطى عن استعمال الحرف العربي في كتابتها كما هو حال أذربيجان وتركمانيا وكازخستان وأوزباكستان وطاجكستان وغيرها، ما يعني انقطاع فعلي آفاق التقارب الثقافي مع هذه البلدان والشعوب التي شكلت في الماضي جزءا من جسم هذه الأمة لتصبح اليوم بعيدة كل البعد عنها بل إن بعضها أقرب إلى تل أبيب من أي عاصمة عالمية أخرى.

وإن كانت هذه الدول بعيدة عن قلب الوطن فإن ما يتهدد الثقافة والحضارة واللغة العربية في شمال أفريقيا لا يقل خطورة عن ذلك، فناهيك عن تهديد الرئيس معمر القذافي الدائم بإخراج ليبيا من الجامعة العربية، نجد أحزابا في الجزائر تدعو إلى اعتماد الفرنسية لغة رسمية للبلاد بدلا عن العربية، وقد لا يكون هذا الحال أفضل بكثير في بلدان أخرى مجاورة.

أما أسباب ذلك فهي متعددة ولها صلة مباشرة أو غير مباشرة بغياب الإرادة الذاتية لدى هذه الأمة في إدراك ذاتها والعمل على إيجاد مكانة طليعية بمستوى الرسالة التي حملتها للبشرية جمعاء، هذا إلى جانب استهدافها الدائم من قبل الغرب أولا ومن قبل الولايات المتحدة ونظامها الذي تفرضه على العالم من خلال العولمة وأدى حتى الآن لمعاناة 800 مليون مواطن في العالم من الجوع، غالبيتهم العظمى من الدول الإسلامية حسب إحصاءات الأمم المتحدة.

لدينا الكثيرون من تاركي اللغة على غاربها، وكثير من الذين يتفاخرون برايات أجنبية، إشباعا لغرور سخيف أو سعيا لتحقيق أرباح بخسة لا تأخذ بعين الاعتبار اللغة هي التعبير عن النفس والهوية والطابع، وأن من لا يحترم لغته لا يحترم ذاته ولن يحترمه الآخرين. نحن مسئولون عن ميراث تاريخي كلف هذه الأمة آلاف السنين من التضحيات الجسام، نحن مسؤولون أمام ميراث أجدادنا وما سنورثه لأحفادنا من هوية وحضارة لا تنقلها إلا اللغة العربية، ومسؤولون عن ثقافة تنتشر في أوساط شعوب تمثل خمس البشرية جمعاء ما زالت تعتنق ديانتنا وتستعمل حروفنا مستقبلها يرتبط بمستقبلنا ليعد بآفاق غد أفضل لنا ولها في كنف هذه الحضارة الإنسانية الراقية. إنها قضية إستراتيجية بل وجيوستراتيجية ملحة لا يمكن الاستمرار في إهمالها وسط هذه الهجمة الأمريكية الساحقة على كل ما له صلة بالحضارة والثقافة العربية التي لن توفر فيها الديانة عندما تسنح لها الفرصة بتدنيس وبتر أثمن ما في تراثنا دون أي تردد.

هل يمكن مواجهة هذا التوسع الأمريكي في عصر تعتبر فيه القوة العظمى الأوحد في العالم؟

من الواضح أن هذا السؤال ما عاد يطرح نفسه حيال الحملة العدوانية الأمريكية كونها موجهة ضد من يندرجون فقط تحت تسمية العالم الثالث أو الجنوب أو العالم الإسلامي أو العربي بل أخذ يطرح نفسه بقوة أمام دول كبرى كالصين التي تدرك حتمية مواجهتها مع واشنطن ولكنها تؤثر تعزيز مكانتها الاقتصادية على حساب تأجيل هذه المواجهة، وهذا ما ينطبق أيضا على روسيا التي تسعى لحل مشكلاتها الداخلية وإحكام سيطرتها على الشيشان الغنية بالموارد الطبيعية ولو بالتنازل عن جانب من استقلاليتها لصالح الولايات المتحدة، وهذا هو حال الاتحاد الأوروبي نفسه وعلى رأسه فرنسا التي لها باع طويل في سعيها للحد من الرغبة الأمريكية الجامحة في فرض هيمنتها على القارة الأوروبية بكاملها.

من الثابت أن أوروبا تزن، اليوم، 25% من الإنتاج العالمي، وأن عملاتها الرئيسية تشكل حوالي 45% من احتياطي صندوق النقد الدولي مقابل 40 % للدولار، وأنها على رأس الصادرات والواردات في العالم. غير أن كل هذا يبقى بعيدا عن حدود القوة السياسية الفعلية مادامت الولايات المتحدة قد ضمنت لنفسها حراس ومندوبين في كل مكان. فهي تتلاعب بالمؤسسات الكبرى كالحلف الأطلسي والأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة- ولو بصعوبة أكبر من الماضي، إذ إنها تثير مزيدا من ممانعة عدة شركاء لإفشال كل محاولة للاتحاد الأوروبي ترمي إلى تحقيق استقلالية في قراراته الأساسية. (124)

والحقيقة أن جذور المحاولات الأوروبية الرامية لتحقيق الاستقلالية في قراراتها الأساسية تعود إلى عصر الجنرال ديغول وممارسته الشؤون السياسية، حيث أنكب على كبح الهيمنة الأميركية قدر الإمكان. في 29/6/1959، جاء هارولد ماكميلان، الوزير الأول الإنكليزي، إلى باريس، وكان همه إرضاء أصدقائه الأميركيين الذين لا ينظرون بعين الرضى إلى طريقة تطور السوق الأوروبية المشتركة، فطلب من ديغول التخلي عن الأوروبيين والخروج من السوق باعتباره شكلا جديدا لـلحصار القاري فرفض ديغول ذلك ملاحظاً أن على أوروبا الاستغناء عن محور فرنسي- بريطاني كعمود فقري، فتوجه إلى ألمانيا حيث التقى بالمستشار الألماني أديناور يوم 14/9/1958 في كولومبي لتولد بذلك فكرة أوروبا، المالكة مصيرها فعلا والمتعالية على جراح أثخنتها بحروب داخلية أودت بعشرات الملايين من الضحايا خلال فترة لا تزيد عن خمسين عاما.

وقد استحوذت المسألة النووية على اهتمام ديغول المصمم على إكساب فرنسا وربما أوروبا استقلالا تمانعه بنية الحلف الأطلسي. وفي14/1/1961 ورغم تصلب السلطات الأميركية، العازمة على أن تمتلك وحدها امتياز القوة الذرية، أكد ديغول نيته على بناء واستعمال هذه القوة عند الضرورة.

عملت الولايات المتحدة على تفويت هذه الفرصة إزاء عزم فرنسا على امتلاك قوتها النووية الخاصة بها، فرفضت تزويد السلطات الفرنسية بالبلوتونيوم اللازم، كما حاولت إحباط الطموحات الفرنسية ناكرة مهارات مهندسيها وعلمائها.

بعد ذلك وقف ديغول ضد هيمنة النظام النقدي الدولي من خلال الدولار، وحاول عبثاً تشجيع معيار جديد. ثم قام بزيارة ودية إلى الاتحاد السوفييتي بين 20/6/1966 و 1/7/1966. وفي حزيران/ يونيو من عام 1967، بعد حرب إسرائيل الصاعقة والمدعومة من الأميركيين ضد البلدان العربية، قررت فرنسا حظراً على الطائرات التي أوصت عليها الدولة العبرية ودفعت ثمنها. أما خطاب ديغول في كندا وقوله "عاشت الكيبك حرة!"، فقد رفع مستوى الغضب الأميركي إلى أوجه وأبرز المساعي الاستقلالية لفرنسا ومن ورائه أوروبا بأسرها.

انكب ديغول، من 1964 إلى 1966، على تشجيع قيام طريق ثالثة بين المعسكرين. فتوجه نحو الصين وأوروبا الشرقية وآسيا. وفي خطاب أدلى به في 10/8/1967، جاء على ذكر ما أسمامهم بنساك معبد حلف شمال الأطلسي، رافضاً من جانبه، "المساعدة" الفرنسية لهذه القوة العظمى أو تلك.(125)

واستمرت المحاولات الأوروبية على حالها حتى تحققت وحدتها المرجوة وعززت وحدتها النقدية رغم أن القوة الاقتصادية لا تعني بالضرورة قوة سياسية تنعم بالاستقلالية التامة، مع أن ما شهد مجلس الأمن الدولي من مفاوضات حول القرار 1441 المتعلق بالعراق إنما يؤكد استمرار فرنسا على عهدها في محاولة التمايز عن المواقف الأمريكية رغم الضغوط.

وقد لا يقل الموقف الصيني شأنا منذ انتصار الثورة عام 1949 في مقارعة المساعي التوسعية في آسيا على الأقل كما رأينا من خلال دعمها لفيتنام التي قتل فيها ما يزيد عن ستين ألف جندي أمريكي وكوريا التي قتل فيها أكثر من عشرين ألف أو حتى في المحافل الدولية، وكان من بينها فشل المحاولات الأمريكية في إقناع بكين بتبني القرار 1441 المتعلق بالعراق قبل إجراء التعديلات اللازمة عليه.

علما أن المواقف الدولية الصينية تبقى محكومة بتركيزها الرئيسي على تعزيز الجبهة الداخلية حول سلطة الحزب والتقليل من آثار المتغيرات الاقتصادية على فئات واسعة من السكان إلى جانب ما تعانيه من محاولات انفصالية في التيبت أو في المناطق الإسلامية الواقعة غربي الصين.

إن لم يكن النموذج الصيني كافيا أو نموذج الدول الغنية الكبرى، فهناك دول فقيرة جدا كما هو حال الهند التي ما زالت تكافح من اجل استقلاليتها القومية الوطنية بعيدا عن التحول إلى مجرد أسواق تستهلك البضائع والأفكار والثقافية والحضارة الأميركية، وهي تستمد قوتها من إرادتها الذاتية التي تعتبرها أقوى من كل الأسلحة. قد تتحدث هذه النماذج عن مئات الملايين من البشر آو مليارات البشر، إذا شملنا الصين والهند معا، إلا أن هناك شعوبا وبلدان أقل مساحة وتعدادا تمكنت من مواجهة الأميركيين وهزيمتهم، كالفيتناميين الذين كلفوا الولايات المتحدة الأميركية أزمات اقتصادية وأخلاقية هائلة ما زالت تدفع ثمنها حتى اليوم إلى جانب خسائرها البشرية التي ما زالت تجر أذيالها المعنوية حتى الآن.

بعيدا عن فيتنام وآسيا وأوروبا أيضا هناك النموذج الكوبي الذي ما زال يواجه أربعين عاما من الحصار وعمليات التخريب وتجنيد العصابات المناهضة للثورة وتدريبها على ضرب كوبا الصامدة بوجه العدوانية والهيمنة الأمريكية بشتى السبل. ما زالت كوبا تحافظ على هويتها الوطنية وعلى هويتها الجنوبية التي ضاعت في بلدان كبرى من أميركا اللاتينية أصبحت مهددة بالإفلاس كما هو الحال في المكسيك والأرجنتين وبوليفيا أو عدد آخر من البلدان الأميركية اللاتينية التي خسرت رغم حجمها الجغرافي والسكاني الهائل مكانتها الاقتصادية والسياسية أمام الهجمة الأميركية وما زالت تكافح الفقر والجوع والعوز في سبيل البقاء، بينما تحولت كوبا إلى نموذج في الاستقلال يتمتع سكانها بمستويات تعليمية وثقافية عالية بعدد سكانها الذي لا يتعدى 11 مليون نسمة.

تمكنت كوبا رغم الحصار الأمريكي وهي على مسافة 90 ميلا فقط من الشواطئ الأمريكية، تمكنت من خفض مستويات الفقر والأمية لديها بالمقارنة مع البلدان المجاورة التي تدور في فلك الخيار الأمريكي، ما يؤكد حقيقة أن القوة الذاتية وقوة الإرادة من العوامل الأساسية والعناصر الفعالة في صد العدوانية الأمريكية مهما بلغت من وقاحة، وليست القوة العددية أو العسكرية أو قوة الحديد والنار كما تعتقد الولايات المتحدة الأميركية وكما يعتقد من يبررون الهزيمة أمامها والخضوع والاستسلام لمشيئتها في هذه المنطقة.

هنا لن تغيب عن أعيننا تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران وحكمتها في الصمود وتعزيز الوحدة الداخلية في وجه المؤامرات الأمريكية ومحاولات الحصار المفروضة حولها. ومن غير الممكن أن نغفل كفاحات الشعب الفلسطيني الباسل وتضحياته البطولية المستمرة دفاعا عن عروبة فلسطين ومقدساتها الإسلامية، وصمود حزب الله وانتصاره على قوة نووية عظمى في الشرق الأوسط وإخراجها من الأراضي اللبنانية المحتلة بالوحدة والإرادة والتضحيات والحكمة السياسية، وإصراره على حقه في تحرير ما تبقى من أراضي لبنانية محتلة بشتى الوسائل والسبل المتاحة ليشكل بذلك نموذجا في مناهضة الأميركيين وقاعدتهم العسكرية المتقدمة في الشرق الأوسط المتجسدة بالكيان الصهيوني الغاصب.

لا شك أن تاريخ مناهضة الهيمنة الأمريكية في هذه المنطقة قد شهد تحولات جذرية إذ كانت واشنطن حتى أواسط القرن الماضي تعتبر وسيطا نزيها حيال القوى الاستعمارية التي تواجه الشعوب العربية حتى أنها لعبت دور الوسيط الدولي الداعي لمنح الاستقلال لعدد من الدول العربية من الاستعمار الفرنسي أو البريطاني، وقد تم ذلك في مرحلة كانت واشنطن تركز جل اهتمامها على إخراج المستعمرين التقليديين من بلدان العالم تمهيدا لفرض نفوذها على هذه البلدان، وهذا ما فعلته في عدد من الدول التي عانت الأمرين بعد استقلالها للتخلص من النفوذ الأمريكي فنجح بعضها وما زال البعض الآخر يدفع الثمن غاليا.

هذا ما حدث في إندونيسيا مثلا حيث دفعت واشنطن إثر الحرب العالمية الثانية لطرد المستعمر الهولندي من هناك، ولكنها بعد ذلك انقلبت على المناضل الوطني الكبير سوكارنو وزرعت الفوضى في البلد الإسلامي الأكبر في العالم وساهمت بمذبحة راح ضحيتها أكثر من مليوني شخص، بذريعة التخلص من الشيوعيين الذين كان لهم الفضل الأكبر في النضال ضد الهولنديين وطردهم من البلاد، ثم نصبت طغمة عسكرية فاسدة بقيادة سوهارتو ما زالت تفرض نفوذها على الحكومات المتعاقبة هناك حتى يومنا هذا.

ولكن هذه الخطة ما كانت لتنطلي على الشعب الفيتنامي الذي آمن بداية بما تدعيه أمريكا من دعمها لاستقلال الشعوب عن مستعمريها، حتى أنه في التاسع عشر من آب أغسطس دخلت قوات الفيت مينه إلى هانوي واستولت على البلد من السلطة العميلة التي نصبتها اليابان. كانت لدينا ثلاث كتائب فقط، في كل منها ثلاث فرق أي أنها في الواقع تشكل كتيبة واحدة. وكانت بقيادة الجنرال جياب الذي أعلن في أكثر من مناسبة أن ثلاثة أمريكيين من وحدات أو إس إس التي تحولت فيما بعد إلى السي أي إيه، قد نزلوا بالمظلات لمقاتلة اليابان في فيتنام مع نهاية الحرب، وذلك بتقديم السلاح والتدريب العسكري لقوات الفيت مينه.

وقد انطلق هو شي منه في تقبل المساعدات الأمريكية من السياسة الخارجية المعلنة للرئيس فرانكلين روزفلت الذي كان من المناهضين جدا للاستعمار الفرنسي في الهند الصينية. ما جعله يميل إلى الأمريكيين لأنه صدق بأنهم معادين للاستعمار. لإيمان هو شي منه بمساعدة أمريكا أسبابه إذ أن لم يكن يسعى لإقامة نظام شيوعي، بل الاستقلال والحرية والديمقراطية أولا، على أن نعالج مسألة الشيوعية فيما بعد. وقد بلغت ثقة هو شي منه بالمصداقية الأمريكية حدا جعله في الثاني من أيلول سبتمبر من عام خمسة وأربعين، يقف لإعلان الاستقلال الفيتنامي أمام حشود هائلة في هانوي، يضم في كلماته الأولى بعضا من أقوال الرئيس الأمريكي الثالث توماس جيفيرسون فافتتح إعلان الاستقلال الفيتنامي التاريخي بجملته الشهيرة التي يقول فيها: "لقد ولد جميع الناس سواسية. وقد منحنا الخالق بعض الحقوق التي لا تنتهك. كالحق بالحياة، والحق بالحرية، والحق في السعادة".

أما بقية القصة فلا أحد في العالم يجهلها، إذ تحول الأمريكيون 180 درجة بعد خروج الفرنسيين من الهند الصينية وحاولوا الاستيلاء على فيتنام بحرب كلفتهم أكثر من ستين ألف قتيل، توجت بهزيمة ما زالت تحث الشارع الأمريكي على رفض الحروب وتكلف الإدارة الأمريكية حملات إعلامية تحاول فيها إقناع المواطن العادي بأنه ليس للهزيمة أن تكون نهاية حتمية في جميع حروبها. لهذا تروج في الشارع الأمريكي إلى أن حربها في العراق ستحقق النصر الأكيد لأن الشعب هناك لا يلتف حول صدام كما وقف الفيتناميون وراء هوشي منه. وكأنها بذلك تختصر رغبات الشعوب بطرد المحتلين بشخص واحد يكفي التخلص منه لإلغاء طموحات الشعب بالحرية والسيادة. علما أن هزيمة الأمريكيين في فيتنام تمت بعد وفاة زعيمها التاريخي هو شي منه.

هذا ما تكرر بعد معاهدة فيرساي في الشرق الأوسط إذا حضر الرئيس الأميركي توماس وودرو ولسون مؤتمر سان ريمو في 26-6-1920 حيث أعلن نقاطه الأربع عشر التي يطالب فيها بحق تقرير المصير لشعوب الدولة العثمانية المنهارة وبعد أن رأى كيف انتهى مؤتمر سان ريمو وصف الرئيس الأمريكي ما جرى في هذا المؤتمر المتعلق بالمنطقة في أنه تزاحم على الشرق الأوسط مثير للقرف والاشمئزاز. كان هذا هو موقف الرئيس ويلسون بداية لكن في نفس الوقت وبعد أن أدرك أن حركات التحرر ما زالت في مهدها ولا يستطيع ركوب موجتها وادعاء مساعدتها على التخلص من المحتلين ليحل بعد ذلك محلهم، تبنى في مجلس عصبة الأمم حينها إدخال نص وعد بلفور في مقدمة صك الانتداب بناء على طلب من بريطانيا وأيد إنشاء إدارة مستقلة لشرق الأردن التي حظيت أيضا بالموافقة الأميركية الصريحة.

سعت الولايات المتحدة للهيمنة على المناطق النفطية من الوطن العربي تدريجيا منذ ما قبل الحرب الباردة ولكنها عززت مكانتها بصلابة أكبر مستغلة ظروف الحرب الباردة حيث لم تلق المعارضة التي ووجهت بها خارج الجزيرة العربية وتحديدا في نهاية الستينات وبداية السبعينات حتى زيارة السادات إلى القدس والتوقيع على معاهدة كمب ديفيد، حيث بدأت مرحلة جديدة من اجتياح المنطقة تمت معالجتها في فصول سابقة ثم تبعتها مرحلة اختراق أشد وضوحا مع انهيار المنظومة الاشتراكية.

طرحت أفكار في هذه المرحلة تقول أن أميركا لم تعد مضطرة لتقديم الدعم المادي لإسرائيل بمليارات الدولارات سنويا لأن أميركا أصبحت هي الضامنة المباشرة لمصالحها في الشرق الأوسط من خلال الأنظمة أو بما لديها من وسائل ضغط كثيرة تضمن لها ذلك. وقد بلغت هذه النظريات حدا رأت فيه وكأن إسرائيل بالمنظور العام تحولت إلى عبأ على المصالح الأميركية.

وقد تعززت هذه النظرية بعد حرب الخليج حيث استنتج الكثيرين أن الوظيفة الأساسية لدولة إسرائيل تراجعت مع انتهاء الخطر الشيوعي في الشرق الأوسط وبعد أن تمكنت أميركا من جلب قواتها إلى منطقة الخليج لإدارة معركتها مباشرة ضد العراق ولكن الواقع هو أن وظيفة الدولة الإسرائيلية ما زالت قائمة ولا يمكن أن تقف عند حدود حدثين عارضين مهما بلغا من أهمية لأن الصراع يستمر وتتبدل أشكاله و المعادلة الدولية كانت غير مستقرة والنظام العالمي الجديد ما زال يعاني من مشكلات كبيرة في كيفية أدائه وكيفية استقرار القوى داخله.

كما أن منطقة الشرق الأوسط تخضع بدعم من بريطانيا وفرنسا والإدارة الأميركية، إلى محاولات فك وتركيب دائمة لإحكام السيطرة عليها، بهذا المعنى لا يمكن الوصول إلى صيغة سياسية مستقرة في الشرق الأوسط لأن هذا ممنوع على المنطقة هنا يكمن دور إسرائيل في منع هذا الاستقرار تحديدا. لهذا نلاحظ عبر ال50 سنة الماضية أن الجيش الإسرائيلي يقوم بمعدل عملية عسكرية كبيرة كل عشر سنوات تقريبا، من حرب ال48 إلى حرب ال56 إلى حرب 67 إلى حرب ال73 ولو أنها وقعت بطريقة مختلفة إذ أعلنت بمبادرة عربية لتحرير الأراضي المحتلة عام 67 ، ثم تلى ذلك الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 82 ومن بعده الاعتداءات الصهيونية المستمرة على الجنوب اللبناني في التسعينات، وما تخللها من حرب الخليج الأولى واجتياح الكويت ومن بعدها الحرب الأمريكية وحلفائها على العراق وما تبعها من فرض قواعدها العسكرية التي جاءت مؤقتا وما زالت مستمرة حتى الآن.

يؤكد ما سبق خضوع المنطقة الدائم لمحاولات فك وتركيب سياسي قد يصل أحيانا وفق تصور شارون وديك تشيني إلى ضرورة تقسيم السعودية مثلا إلى مناطق نفط خاضعة للشركات بينما تعيش المملكة على هبات مالية محددة تتلقاها من الشركات البترولية الأمريكية وذلك لإحكام السيطرة المباشرة على موارد الطاقة، أي سرقة النفط بطريقة معلنة ونهائية وإفقار شعوب المنطقة ودفعها إلى حالة من الفوضى والتمرد والحروب الداخلية المشابهة لتلك السائدة في كولومبيا وأمريكا اللاتينية أو على طريقة الحروب الإقليمية المدمرة التي تشهدا أفريقيا.

هذا بالإضافة إلى مشاريع أخرى واسعة النطاق تنسب أيضا إلى نفس الثنائي ديك تشيني وأريل شارون باعتبارهما الأكثر تقاربا في النظرة الأمريكية المتعلقة بمستقبل المنطقة. تسترسل هذه المشاريع في طرح إمكانية قيام مملكة هاشمية جديدة من فلسطين إلى العراق عبر الأردن لحسم الصراعات الجارية على قيادة المنطقة إقليميا على قاعدة منح التحكم بها والسيطرة النهائية على مقدراتها لإسرائيل بعد توجيه الضربة أو الضربات القاضية للعراق وإسقاط صدام حسين وما قد يتبعه من أنظمة وطنية.

هذا ما تعمل عليه الولايات المتحدة في المنطقة لإعادة صياغتها أو تجزئتها من جديد، هذا ما سعت إليه بعد انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا فساعدت على تقسيم الاتحاد السوفيتي القوي سابقا إلى دويلات ضعيفة يسهل التحكم بها، ويمكن ضمها منفردة إلى حلف شمال الأطلسي كما حصل في مؤتمر براغ للحلف في تشرين الثاني نوفمبر من عام 2002، وهذا ما حدث في براغ نفسها حيث انقسمت تشيكوسلفاكيا الكبيرة لتصبح دولتين صغيرتين ناهيك عما شهدته يوغزلافيا وما زالت تشهده من دعم للانقسامات العرقية وقيام كيانات صغيرة تافهة لا يمكن لأي منها الاستمرار والبقاء على قيد الحياة في محيطها الدموي المعادي إلا بتسول الحماية والدعم الأمريكي والغربي الذي لن يأتيها دون التخلي عن إرادتها السياسية ومصالحها الاقتصادية في آن معا.

ما يعني أن أي نضوج وتطور ذاتي تشهده القوى الاجتماعية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط لاتباع شعوبها مسارات استقلالية مختلفة تضمن لها التقدم والازدهار وبالتالي مقاومة الهيمنة الأميركية يدفع المنطقة بكاملها مرة أخرى نحو هاوية الأزمات والقلاقل وعدم الاستقرار السياسي والجغرافي. يتم ذلك كما رأينا بحروب تشنها إسرائيل بدعم أمريكي مباشر وبإقامة جسور جوية تمولها كما حدث في حرب تشرين، أو من خلال حروب يمولها المجتمع الدولي بأسره وتتورط فيها بلدان الجوار، وتحصد نتائجها الهيمنة الأمريكية وحدها.

لم يحصل في تاريخ البشرية جمعاء، حتى بزوغ فجر الهيمنة الأمريكية أن سخرت دولة استعمارية كبرى ما لديها من جيوش وعتاد في معارك تشنها على حساب الأسرة الدولية، وعلى حساب مصالح شعوب المنطقة ومستقبلها كما حصل وما زال يحصل في العراق وفلسطين. هذا هو نفس المبدأ الذي اعتمده أريل شارون حين طالب بتعويضات تصل إلى 12 مليار دولار عن الحروب التي خاضها ضد المدن الفلسطينية التي اجتاحها في شهر نيسان، بدل أن يطالب الفلسطينيون بتعويضات من المجتمع الدولي الذي اكتفى بالصمت حيال ما أصابهم من دمار وخراب.

هذا ما يكشف عن توافق في نظرة الغرب والأمريكيين والصهاينة إلى المنطقة باعتبارها طريدة جريحة هي ملك لمن ينجح أولا بتوجيه الضربة القاضية إليها قبل أن تمنح فرصة للملمة الجراح. لهذا يعدون المشاريع اللازمة لنهب هذه المنطقة ومنعها من النمو والتطور وإعادة ترتيب أوضاعها الإقليمية في كل عقد وذلك عبر ضربات منهجية منظمة يزيد من الفقر والتخلف فيها ويجعلها كسيحة عاجزة عن النهوض بذاتها لبلوغ مكانة تستحقها بين الأمم.

 

إذا أردنا اختيار عنوان يقترب قدر الإمكان من الدقة في وصف أمريكا نستطيع القول أنها أمة تتشكل من عرق واحد قوامه الأنجلوسكون البيض، يستدعي الانتماء إليه الانصهار الكلي في أهدافه دون أي تحفظ، وهي أمة لا يدخلها الهنود والسود والعرب والمسلمين مهما فعلوا، إلا بشرط واحد ودقيق: أن يتخلوا عن هنديتهم وزنجيتهم وعروبتهم وإسلامهم، ذلك أن أمريكا أمة تقوم على العنصرية والاستعباد الاقتصادي وإلغاء الآخر بإفقاره حضاريا وماديا حتى يسحق على يد سلطة يحكمها نظام أصحاب المصالح المالية الكبرى ومن يدور في فلكهم.

ليس هناك وصفة واضحة ومحددة لما يمكن أن تفعله شعوبنا للتخلص من هذه العدوانية الأميركية ولكن من واجب المفكرين في هذه المنطقة والسياسيين أن يبحثوا عن السبل المناسبة التي تمكن هذه الشعوب من مجابهة العدوانية الأميركية وإلا فعلى وجودها وعلى حضارتها وعلى ديانتها وتاريخها وعلى ثقافتها السلام.

قد يساعدنا في ذلك أدراك ما تتمتع به شعوبنا وعي وإرادة صلبة. فالمعنى العميق للقوة لا يكمن بالأسلحة الفتاكة وحدها بل في إدراك أنفسنا ومعرفة ما يحيط بنا وأهمية وحدة المصير في هذا العالم وامتلاك إرادة العمل المشترك على التغيير الجدي. وقد نستعين في ذلك بتعزيز عناصر الترابط القومي والديني والتاريخي واللغوي وتوسيع التحالفات مع ذوي المصلحة المشتركة المتضررين من الهجمة الأمريكية المسعورة.

قد يتطلب ذلك إعادة النظر في أنماط الاستهلاك الأمريكي الجشع و المخططات الأيديولوجية المرسومة في الولايات المتحدة والتي بدأت تنتشر في كل مكان من الوطن العربي لتحظى بمجهود إعلاني لا نظير له يسعى إلى إلغاء الفوارق الثقافية التي تشكل ثروة إنسانية للبشرية جمعاء.

هذه هي الثقافة الأميركية التي تستفيد من تفوقها المادي بمهارة عالية لتفرض نفسها بتفكيك البنى الاجتماعية التقليدية وإبادة العادات والتقاليد المحلة بلا كلل، لنشر تقاليد الاستهلاك والامتثال لكل ما يأتينا من أميركا دون تمييز. وهي ترمي بذلك إلى تحويل الشعوب العربية إلى مواطنين عديمي الاكتراث بتاريخهم وهويتهم ومصائرهم. لهذا نرى في كل ما سبق أسلحة وأدوات لا يستهان بها في خدمة المصالح الأمريكية ومشاريعها للمنطقة.

قارب حجم الصادرات العربية إلى الولايات المتحدة مع نهاية عام2000 حوالي 3.5 مليار دولارا، إذا استثنينا صادرات النفط، وذلك وفق مصادر وزارة التجارة الأمريكية التي أكدت أن قيمة ما تستورده الدول العربية من أمريكا بلغ 16 مليار دولار ما يعني أن مجموع التبادل التجاري بين المجموعتين يقارب ال20 مليار دولار، أي بفارق في الميزان التجاري يصل إلى اثني عشر مليار دولار لصالح الولايات المتحدة. توزع الصادرات العربية على المشتقات البتروكيميائية والملابس وغيرها من صناعات بسيطة، تستورد الدول العربية مقابلها مواد غذائية بقيمة 4 مليارات دولار أي ما يقارب ربع وارداتها، علما أننا نسكن في مناطق خصبة كانت مصر وحدها تطعمها بالكامل في عصر سيدنا يوسف عليه السلام، ولدينا في السودان أوسع مناطق خصبة في العالم وهي مهملة رغم الكلفة الزهيدة للعمالة فيها. أما بقية البضائع التي نستوردها فتركز بشكل أساسي على وسائل النقل والسيارات التي تحتل نسبة تفوق 60% من مجموع الواردات العربية من الولايات المتحدة أي10 مليارات دولار، علما أن هناك دولا إسلامية تصنع سيارات تستحق الدعم والتنمية كي تنضم نظام تكامل اقتصادي واكتفاء ذاتي يعزز وحدتنا وحضارتنا ومكانتنا في هذا العالم.

وفي الخطوات الوحدوية الحديثة للجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي واتحاد المغرب العربي واتفاقيات التكامل القائمة بين لبنان وسوريا نماذج تستدعي مزيدا من الاهتمام والتركيز على الجوانب الاقتصادية منها لفتح الأسواق وخفض الجمارك وتشجيع الاستثمارات والاعتماد على العمالة والكفاءات الإقليمية وتبادل الخبرات والحد من هجرة الأدمغة إلى الغرب بتوفير الفرص التنموية اللازمة للاستفادة منها.

هذا ما سيساعدنا على الوقوف مع قوى طليعية أخرى في العالم تطالب بإعادة النظر في نظام التبادل التجاري السائد في عالم الجائر بحق الشعوب الفقيرة ووما يتسبب به صندوق النقد الدولي، المصرف الدولي من تفاوت يسمح ل20% من البشر بالتمتع بالرفاهية التامة بينما يعيش 80% منهم تحت مستوى الفقر. ولا بد من إعادة النظر بهياكل وأنظمة المؤسسات الدولية المتفرعة عن هيئة الأمم المتحدة وتحديدا مجلس الأمن لمنع الولايات المتحدة الولايات المتحدة من احتكارها للمنظمة الدولية وموظفيها وكأنهم عملاء لديها تبتز البعض وتستبدل الآخر إن كان عربيا سيء السيرة والسلوك كما فعلت ببطرس بطرس غالي. ينبغي أن يعاد النظر والعودة عن المعاهدات القائمة مع الولايات المتحدة لأن الإمبراطورية لا تحتاج إلى حلفاء بل تريد أتباعا لها كما هو حال سياستها المتبعة في حلف شمال الأطلسي التي أصبحك بعد مؤتمر براغ تضم دولا صغيرة كانت عضوا في الاتحاد السوفيتي السابق كليتوانيا وأستونيا لتنضم اليوم إلى قوة عظمى لن تتردد في استعمالها وقودا لما تشعله في هذا العالم من اضطرابات وحرائق.

 

لا بد من الرد على التحالفات التي تقيمها الولايات المتحدة لإخضاع العرب والمسلمين بالعمل على تعزيز أدوات التضامن بين هذه الشعوب وتنمية أطرها الوحدوية على اختلافها، ما يختصر الرد على التحالفات المعادية بالوحدة والتماسك ورص الصفوف الداخلية، والبحث في العولمة عن وسائل لمواجهتها، تماما كما يفعل الأحرار عندما يستلون سلاح المعتدين لردهم على أعقابهم.

 

علينا أن نثق بما لدينا من إمكانات تتيح لنا المساهمة في بناء عالم فيه متسع لمن يدرك ذاته وماضيه وحاضره ويملك الإرادة لبناء مستقبل لا يقوم على السيطرة بل على المنفعة المشتركة وردم الهوة بين الشعوب وتجنب ما يثيره الغبن والإحباط من ردود أفعال بعد انهيار الادعاءات التي تشرع لواشنطن فرض إرادتها على شعوبنا وحتمية فشلها في إخضاع الآخرين بالقوة والإكراه.

=-=-=-=-=-=-=-انتهى الفصل التاسع والأخير.

© 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف

الملحق الاول

 

[مقدمة اولى]  [مقدمة ثانية]  [مقدمة ثالثة]  [مقدمة رابعة]  [ملخص الكتاب] 
[الفصل الاول]  [الفصل الثاني]  [الفصل الثالث] 
[الفصل الرابع]  [الفصل الخامس]  [الفصل السادس]  [الفصل السابع]  [الفصل الثامن]  [الفصل التاسع] 
[ملحق اول]  [ملحق ثاني]  [ملحق ثالث]  [ملحق رابع] 
[فهرس المحتويات] 

 

 
 
 
 




قراء هذه الصفحة ابتداء من 28/02/2004


 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster