اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 "رواية أشواك الجليل" الفصل الأول
 

 رحلة الشمال والجنوب

   رحلت مع أمها نحو الشمال رغم سير الجميع بقوافل نحو الشرق، بما في ذلك ابن عمها الذي تزوّجها منذ بضعة أيام. ربما لأنها سمعت أن الرحلة قد تدوم أسبوعين لا أكثر، أو لأنها لم تعلم خطورة أن تترك المرأة زوجها بعد أيام من الزواج، أو لأنها لم تشعر نحوه بإحساس أعمق ومحبة أصدق مما كانت تشعر به نحو أمها التي عاشت معها طوال خمسة عشر عاماً، هو كل عمرها، بينما لم تساكنه إلا أياماً معدودات. والأرجح هو أن التصاق الطفلة بأمها جعلها تفضل الرحيل نحو الشمال. فرحلت.

     كان الطريق الساحلي مزدحماً بالمهجّرين من جميع الأعمار، والشاحنة لا تكاد تعثر على مكان تسلكه بين المشاة على الطريق المرسوم شمالاً كالأفعى تتلوى بطيئاً على إيقاع الخطى المتعثرة للهاربين المنهكين فاقدي الصواب، وكأنهم في حالة من الهذيان منذ أن سخروا أقدامهم لأول خطوة في مسيرة آلاف الهموم، في هجرة عذاب من يترك وطنه مرغماً أو ذهاب بلا إياب، رحلة في اتجاه واحد، سفر بلا عودة.

    حمل بعضهم زاداً وكأن ساعة الرحيل دقت عند الذهاب إلى الحقل للفلاحة والزراعة كما اعتاد طوال حياته في قريته التي أمن فيها وتعلق بترابها، وآخر يمسك برسن حمار يعيقه عن المسير، بعد أن أبقى الحمار في البلاد ليصبح أوفر حظاً من الرسن وصاحبه.

 وامرأة تمشي منهكة وهي تحمل بين ذراعيها مُنخلاً وكأنها كانت تهمّ بتهيئة الدقيق فجراً لتصنع خبز ذلك اليوم، وأخرى تهز وسادة كانت تحملها وكأنها تركت طفلاً في حيفا فأخذت الوسادة مكانه، أو أن الوسادة كل ما تملك، أو ربما تبرر بها كل الخوف الذي تملّكها حين تخلت عن بقية الوطن لتنجو بنفسها مع وسادة ستكون رفيقة العمر في نومها العميق حتى يفرق الموت بينهما.

      لم تتوقف الشاحنة طوال الطريق حتى وصلت مدخل مدينة صور حيث أمرت دورية من الشرطة اللبنانية السائق بالتوجه إلى محطة القطار القريبة من منطقة البص، وهناك كانت المقطورات تعج بألوف المشردين لتحملهم إلى مصير مجهول، فقد لا يتوقف إلا في بعلبك أو دمشق أو حتى حلب في سوريا.

 حكم هذا القطار على عائلات كثيرة بالتشتت، إذ إن جزءاً منها أجبر قسراً على الصعود إليه والسفر إلى مدن بعيدة عن الوطن، حيث بقي جزء بسيط آخر، ورحل البعض إلى الضفة الغربية والأردن، وحكم على الجزء الأخير بالبقاء في لبنان.

     برغم الضرب والإهانات التي تعرض لها أنصاف الأموات من المهجّرين عند المحطة لإجبارهم على الصعود إلى المقطورات، تمكن والدها من إقناع سائق الشاحنة، بعد أن أنزل حمولته من الركاب، بأن يتوجه به وبأفراد عائلته وحدهم إلى أي فندق في المدينة. كان يتوقع أن يبقى بضعة أيام لا أكثر في المدينة ليعود بعدها إلى فلسطين حيث حبا وترعرع، لهذا فضل أن يوفر عناء السفر بالقطار كي لا يبتعد أكثر، وليكون أول العائدين.

     أنفق ما أنفق من الجنيهات الفلسطينية التي لا يعرف كيف خبّأها لحظة الفرار وكانت معه ليدفع مقابل إقامة عائلته في الطابق العلوي من ذلك الفندق الواقع على شاطئ البحر، كان يتوقع أن يتبعه أحد أشقائه أو ابن أحدهم الذي تزوّج ابنته على الأقل، ولكن دون جدوى.

 مر أكثر من أسبوعين دون علم أو خبر، حتى أحس بضرورة التخفيف من عبء المصروفات عليه، فانتقل من الفندق الذي يقيم فيه إلى بيت استأجره بين البساتين في إحدى التلال المجاورة للمدينة تسمى المعشوق.

     تأخر كثيراً ليتأكد من أن القضية ستجول بين عصبة الأمم والأعراق والأعراف والذمم وأنها ستحمل مثله بطاقة ذهاب إلى أروقة المنتديات والمؤتمرات من دون إياب. علم متأخراً أن لا مفر من العودة لمواجهة ما تقدّره السماء، لعلّه يتخلص من عذابات الضمير وهو يردد عبارة أمه ومثلها الشعبي المفضل: "من ترك داره قلّ مقداره".

ها هو يشعر بأن مقداره قد قلّ منذ أن هجر داره وأهله وماضيه وحاضره. حتى دكانه ومصدر رزقه الذي خلّفه وراءه، ترك ما فيه من مال معتبراً أنها بضعة أيام ويعود، بعد أن تكون الجيوش العربية قد تمكنت من طرد المعتدين الصهاينة من بيته ودكانه. كان بأمسّ الحاجة إلى ذلك المال، بقدر حاجته للعودة إلى تلك الديار وأكثر، وقد كان دائم التفكير بالعودة.

 طرح السؤال على نفسه: كيف سيعود الآن إلى هناك؟ ذهب إلى السماسرة الذين ساعدوه في الخروج، ليتأكد له أن الخروج منه أسهل من العودة إليه، وأن العود لن يكون أحمد، بل إنه شبه مستحيل، خصوصاً إن أراد العودة محملاً بالصغير والكبير كما كان ساعة خروجه.

برغم ذلك حاول بشتى السبل أن يضمن العودة مع النساء والأطفال، فسخر منه كل السماسرة، كان الجميع يقولون: الأعمار والأعراض هناك على كف عفريت، فماذا يفعل وهو الذي يخاف على الأعراض أكثر من خوفه على الأعمار؟؟؟

 تمتم بامتعاض "لا حول ولا قوة إلا بالله"، أصبح مجبراً على الانتظار، لكنه لن ينتظر مفلساً، وإن كان خائفاً على الأعراض فلتبقَ هذه مختبئة خلف أبواب موصدة حتى يذهب وحده ليأتي بما تركه من مبلغ في الدكان حين أجبر على الرحيل مرغماً لشدة ما سمع عن أهوال يقترفها الصهاينة.

كان جسوراً مغامراً، خاض المخاطر أكثر من مرة على الميناء بمواجهة الصيادين في عكا، وكان مستعداً للمخاطرة مرة أخرى في سبيل الحصول على ما هو بأمسّ الحاجة إليه الآن: المبلغ الذي تركه في درج الدكان ساعة رحيله المباغت، كأنه يعلم أنه سيحتاج إليه ليدفع مقابل السكن الذي استأجره، وكي يفتح دكاناً آخر هنا، قريباً من ميناء آخر.

محال! بذل ما بوسعه لإقناع أحدهم بأن يوصله إلى أسوار المدينة على الأقل، وكأنهم جميعهم قد اتفقوا على العودة بسياراتهم فارغة إلى هناك، ليخرجوا بها محمّلين بالناس وبعض الأشياء التافهة التي لا معنى ولا أهمية لها مقارنة بما ترك هناك.

تمكن أخيراً من العثور على شاحنة أكد له صاحبها أنه سينزله على بعد مائة متر فقط من الحاجز الأول لنقطة التفتيش، اعتبرها كلمة شرف، ونزل من السيارة مترجلاً، وبدأ يصعد تلك الهضاب والتلال متجهاً نحو الجنوب كي يعبر مئات الأمتار فقط وينزل بعدها إلى الشاطئ من جديد على أمل أن يجد السيارة بانتظاره، كما وعده السائق، فيكمل بها رحلته.

      وعاد. عاد إلى الشاطئ ولم يعثر على السيارة، حتى إنه لم يتوقع العثور عليها. وجد من الطبيعي أن ترحل السيارة لأن مسيرته عبر التلال استغرقت ليلة كاملة، ولم تكن بضع مئات من الأمتار كما أبلغه السائق، لم يفكر بإيقاف أي سيارة تمر من هناك، بل فضل قضاء النهار في عبّارة مياه قريبة من الشاطئ حتى ساعة الغروب، ليعاود المسير دون توقف حتى وصل إلى مدخل المدينة مع الفجر.

لم يفكر حتى بالمرور من حي الطاسات حيث كان يسكن، بل ذهب مباشرة الى دكانه، حاول الاختفاء بعيداً عنه أولاً، حتى أيقن أن في اختبائه خارج الدكان مخاطرة أكبر من دخوله إليه لأن حركات مريبة كانت تحدث حوله، وهو يشعر بها.

     راودته الفكرة من جديد وكررها في نفسه حتى كاد صوته يرتفع وهو يتساءل: أليس في اختبائنا خارج الوطن مخاطرة أكبر بكثير من بقائنا في داخله؟ لم يشك في هذه الحقيقة لحظة واحدة، إلاّ أن الوقت كان متأخراً، لقد فات الأوان، كما فات السبت كما يقال، ولكن ليس في اليهودي بل فات عميقاً فينا واستقر على قرار لا يبدو فيه رجعة. ثم تساءل قبل أن يتوجه بخطوته الأولى نحو الدكان: هل سنعيش لنرى أي عود سيكون لأبنائنا؟

فتح درج النقود بعد أن تأكد من أن أحداً لم يدخل الدكان منذ رحيله، شعر بذلك منذ أن أولج المفتاح بالقفل كما اعتاد أن يفعل منذ طفولته، كانت جميع المحلات مقفلة، حتى بدا له كأن شيئاً لم يكن، وكأنه أول من يأتي إلى الدكان فجراً كالمعتاد. جالت الذكريات الحميمة في خواطره ندية عطرة، لكنه سرعان ما طردها وهو يزجر نفسه صارماً: لا وقت للأحلام!

فتح الدرج وجمع كل القطع النقدية التي كانت هناك ودسّها في جيبيه، ثم رفع الصندوق الصغير الذي يحتوي على النقود المعدنية، ليجد أن ما تركه هناك وحده، قد يكفيه ليفتح دكانه العتيد في صور. أمسكها بالأصابع العشرة لكلتا يديه ثم وضعها في صدرية سرواله، التي لا تفارقه حتى ساعة نومه.

ثم خرج. خرج من باب الدكان كما اعتاد دائماً، لكنه أكثر حذراً وحيطة، أمسك الدفة اليسرى للباب بيده اليمنى حتى أسدلت، ثم أمسك بالدفة اليمنى لكلتا يديه وعاد بخطوتين ونصف الثالثة، حتى اجتمعت الدفة بأختها، ثم وضع القفل مكانه كما يفعل عادة قبل عودته إلى المنزل.

فكر بكمية الأرز الكبيرة التي اشتراها مؤخراً للأيام العصيبة المقبلة، وبما كانت ستدر عليه من أرباح لو بقي هناك، فكر بالفترة التي كادت تكفيه كميات الأرز والخيرات التي تركها هناك، بينما أجبر على الرحيل. تذكر آية حكيمة كان يرددها والده ليخفف عن نفسه لحظات الأسى والخسارة الكبرى وهو يقول: "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام".

     لم يجد مواساة في الوافدين للتعازي بحجم الفقيد، والفقيد هنا ليس الوطن، فالوطن باق لم يمت، والخير بين يديه ومن حوله، لم يمت أي شخص عزيز عليه، كل ما حوله من أشياء ينبض بالحياة.

وحده الميت، روحه دخيلة هنا تجول في عالم الأحياء، تدّعي الحياة بين أشياء تمنح الحياة لمن يحلّون محله، ويسكنون بيته، ويفتحون دكانه، ويتنشقون هواءه، ويتحركون في مساحته، ويتمتعون بأدق تفاصيل ما سيعتبرونه وطناً لهم، بينما ستبقى روحه مشرّدة تدعي الحياة بين الأحياء وجسده فارغ من شخصيته وكيانه، لا يستطيع حتى أن يدفنه، لأن روحه باقية هناك تسكن الجسد، أما هو فلن يعرف السكينة وها هو مرة ثانية يترك وطنه هارباً.

أغلق باب دكانه، لم يتردد لحظة واحدة في خروجه من هناك، ربما فكّر بزيارة المقابر، لكنه تخلص من تلك الفكرة سريعاً معتبراً أن الأحياء أولى من الأموات، ثم فكّر بزيارة لشقيقه وسام، الذي أحب يهودية وعاش معها دون أن تعتنق الإسلام. ثم عاد عن فكرته.

من يدري إن كان اليهود يطوّقون المكان، من يدري في أي حال أصبح أخوه، أراد زيارة شقيقته سهام، ولكن كيف يفعل ذلك وزوجها الصياد المعدم رفض الرحيل معه أو حتى مرافقته عبر البحر إلى أول ميناء في لبنان؟

فكر في أن يذهب ليترك لها مفاتيح الدكان على الأقل، ولكن أمله بالعودة منعه من ذلك، من يدري، ربما يعطيها مفاتيح دكانه اليوم، ليتمكن غداً من العودة فلا يجد شيئاً فيه. فضل ألا يزور محباً يتألم لتشرده، أو عدواً يتشفى بمصيره، فأغلق دكانه غير آسف وانصرف.

رحل مجدداً نحو الشمال، وهو يدرك أن الجنوب مصيره. صعد جبالاً نحو ذروة الشمال حتى استقر به المطاف سحيقاً في أسفل الجنوب. نزل هناك، واستأجر محلاً صغيراً قريباً من بيته جعله دكاناً، أخذ المحل من دائرة الأوقاف بأجر شهري يسدد في أول العام.

دفع مقابل سنة كاملة إيفاءً بشروط الإيجار، واشترى بما تبقى لديه من مال مواد غذائية ولوازم أخرى، مستفيداً مما اكتسب من خبرة في التجارة، معتبراً أن ما كان قد انتهى، حتى حينها على الأقل، وأنه ابن اليوم وعليه أن يبدأ من تحت الصفر. فمن يدري ما تخبئ له الأيام؟

لم تكن بدايته صعبة على الإطلاق، فقد كان يحصل على المواد الغذائية بأسعار بخسة من مركز غوث اللاجئين، لم يشتر بضائع مسروقة بالطبع، بل كان يشتريها من اللاجئين بعد أن توزّع عليهم.

كانت عائلات كثيرة من اللاجئين تحتاج إلى بعض المال لشراء الملابس اللازمة لمواجهة برد الشتاء القارس أو لشراء بعض الأدوية لكثير من الأمراض التي انتشرت دون أن تجد دواءً لها لدى الصليب الأحمر، أو لقضاء حاجتها في التنقل سعياً لجمع الشمل ولو في مجمع أو مخيم آخر من الشتات، فكانت تبيع نصيبها من المواد الغذائية الشحيحة لتعالج مشكلة أخرى تمنحها الأولوية حتى على الغذاء الذي كان يوزع على اللاجئين.

كاد الأمر أن يصبح سهلاً عليه لولا الحيرة التي وقع فيها بسبب ابنته التي لم تكمل الخامسة عشرة حين رحلت معه شمالاً رغم اختيار زوجها وعائلة شقيقه الرحيل موقتاً إلى مدن الضفة الغربية أو شرق الأردن حيث أقاموا في ضيافة أحد الأقارب هناك. وحار في أمر ابنته أكثر عندما بلغه الطلاق من ابن شقيقه الذي كان قد وصل إلى الأردن وفقد الأمل بعودتهما معاً إلى هنا أو هناك لبعد المسافة وصعوبة الحركة وضيق الحال، فطلقها.

أخذ الرجل ذلك النبأ وذهب مطأطئ الرأس ليبلغ زوجته وابنته بالخبر الأليم، خرج عن الطريق الذي اعتاد أن يسلكه، هام على وجهه بين أشجار البرتقال، يفكر بوسيلة يخفف بها عن مصاب ابنته، إلاّ أن ما رآه في طريق العودة جعله أحق وأجدى بالمواساة من أي شخص على وجه البسيطة.

تحوّل حزنه على ابنته إلى حيرة وغضب حين شاهدها تستلقي في ظل شجرة التوت دون أن تستعين بورقة منها لتخفي مفاتنها، وهي تذوب بين ذراعي ابن صاحب البستان الذي يستأجر فيه بيتاً. كاد يفقد البصيرة من شدة الغضب.

صرخ بأعلى صوته من شدة الألم. وهام يبحث عن عصا وحجارة ينهال بها عليهما معاً دون أن يفكر كثيراً بالفضيحة التي يمكن أن تنجم عن صراخه الذي قد يجبره على الرحيل مجدداً، ولكن إلى أين هذه المرة وقد أوصدت جميع الأبواب والوجهات، وبعد أن تمكن من الاستقرار نسبياً.

ما عاد يرى أمام عينيه شيئاً بحكمة وعقلانية. لاذ الشاب بالفرار واختفى بعيداً عن الأنظار، أما ابنته فبقيت ترتجف كورقة التوت في فصل الخريف، وحدها هناك، لا تجد بجسدها العاري ملاذاً في الأرض التي تمنت لو تنشق وتبتلعها دون جدوى.

"خذ البنات من صدور العمات". تذكر في تلك اللحظة شقيقته إنصاف التي جلست بانتظار زوجها حسام على محطة القطار في عكا يومياً من الصباح الباكر حتى المساء، طوال سبع سنوات متتالية تطوّع خلالها للقتال إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.

ولكنها أصرت على طلب الطلاق بعد عودته من ساحات المعارك مباشرة حين رأته رثاً بائساً هزيلاً شاحباً لا يستحق منها لحظة شوق وألم، إذ ليس فيه شيء من زوجها الوسيم القوي الأحمر الخدين. أصرت إنصاف على الطلاق رغم اعتراض الجميع. فطلقها.

عاد شرف الدين يبحث عن عصا لم يتأخر في العثور عليها، فراح يضرب إخلاص بكل عزم وشدة وهو يتمنى كلما هوى بعصاه على جسمها النحيل لو يضمها بين ذراعيه ويبكي على حاله وحالها حتى أصبحت العصا أشلاءً واختفى صوته وصوت الفتاة من شدة الصراخ والإغماء الذي كاد يصيبهما معاً.

أتت أمها على الأصوات المخنوقة والمزدوجة، بكاء ابنتها وصراخه بصوت بح وهو يردد: "وصلك الطلاق بعد زواجك بأشهر، لأجدك تحت شجرة التوت في بستان البرتقال، ومع المضياف ابن صاحب البيت الذي نستأجره! هل نهرب لحماية عرض نفقده بعد أن فقدنا الديار؟ "يا هارب من قضاه ما لك رب سواه، ما لك رب سواه...!".

تورمت كل أعضائها، وتوارت عن الأنظار حتى تخف آثار الضرب المبرّح عن جنباتها، ولكن اختفاءها لم يقلل من حيرته، بل زادها أضعافاً مضاعفة، خصوصاً عندما بدأت تظهر عليها عوارض ورم لم تكن له علاقة بضرب القريب، بقدر ما له من صلة بزبيب الحبيب.

ولكن أي حبيب منهما، حبيبها المضياف أم ابن عمها؟؟ ذابت كل الأورام إلا ذلك الورم الذي كان ينمو وينمو دون أن تنفع معه كل أدوية الأرض وأعشابها والقرفة وزيت الخروع.

حسم أمره وقرر أن يذهب إلى والد الفتى، ولكن ماذا يقول له؟ ماذا لو صرخ الشاب قائلاً إنه عاشر ابنته وهي ليست بتولاً؟ ماذا لو كان الحمل من ابن شقيقه، ماذا لو تبيّن لاحقاً أن ابن شقيقه عاقر لا ينجب؟ ليتها تستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة لتخفف عنه، ولكن كيف يسألها؟ كيف يطرح سؤالاً كهذا حتى على زوجته؟ وهو إن فعل يكون قد اعترف أمام الاثنتين بالأمر الواقع.

هل يعترف بانتهاك عرض سار حتى حفي لصونه؟ فكر بكل ذلك وهو في طريقه إلى منزل صاحب البيت الذي يسكنه، وعند الباب قام الأخير واستقبله بكل الحفاوة والكرم الذي يليق بضيف يدخل بيت عربي أصيل كريم، فأجلسه إلى جانبه، وسأله عن الجميع بدون استثناء، ولم ينتظر حتى يسمع منه سؤالاً عن ابنه، فبادره بالقول إنه أرسل الفتى للدراسة في بيروت، "لأنه صغير بعد لا ينفع للزراعة ولا لتربية المواشي". قال هذا دون أن يبدو عليه أثر لأي نفاق أو مواربة.

حمل أذيال خيبته مفضلاً الاعتكاف عن الكلام، عاد أدراجه وهو يلوك مرارة لم تصبه من قبل، ولا يعرف سبيلاً للتخلص منها. لن يقتل ابنته فلذة كبده التي ترك الديار ليحميها، ولن يثير فضيحة تصيب عرضه الذي هرب من الوطن لصونه.

لم يجد أمامه سوى الصمت والكتمان، ومنح الزمن فرصة أملاً بأن يجد سبيلاً لإبلاغ ابن عمها بالحمل، إذا وجد السبيل إلى ذلك، أو أن يعود الفتى من بيروت ليصلح ما أفسده، إذا اعترف بخطئه، أو أن تساعده الصدفة فيزول الورم بقدرة قادر فيختفي أو يعود من حيث أتى. لكنه لم يفعل، بل بقي واستمر هناك ينمو ويكبر حتى أصبح يشبه الثمرة التي أينعت وحان قطافها.

 

=-=-=-=-=-=-=-نهاية الفصل الأول.

© 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف

ولادة صالح

 

[محتويات]  [إهداء]  [شكر]  [مقدمة] 
[الفصل الاول]  [الفصل الثاني]  [الفصل الثالث]  [الفصل الرابع]  [الفصل الخامس] 
[الفصل السادس]  [الفصل السابع]  [الفصل الثامن]  [الفصل التاسع]  [الفصل العاشر] 
[الفصل الحادي عشر]  [الفصل الثاني عشر]  [الفصل الثالث عشر]  [الفصل الرابع عشر] 
[ملاحظات وعتاب] [كلمة حفل التوقيع]  [كلمة وزير الثقافة] 
[نص الوكالة اللبنانية للأخبار]  [نص جريدة المستقبل]  [كلمة رفعت شناعة]  [نص جريدة الديار] 
[نص جريدة البيرق]  [نص جريدة اللواء]  [نص جريدة البلد]  [نص جريدة الشرق] 
[كلمة سلوى سبيتي]
  [كلمة د.نبيل خليل]  [صحيفة صدى البلد] 
[حفل توقيع الكتاب في بيروت]  [حفل توقيع الكتاب في صيدا] 

 

 
 
 
 




Hit counter
ابتداء من 20 آب 2005

 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster