اتصل بنا

Español

إسباني

       لغتنا تواكب العصر

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة | | اتصل بنا | |بريد الموقع 

 
 

 

 

 

 أربط بنا

وقع سجل الزوار

تصفح سجل الزوار

 أضفه إلى صفحتك المفضلة

 اجعله صفحتك الرئيسية

 
 
 
 

 

 

 

 
 "رواية أشواك الجليل" الفصل الحادي عشر
 

 رحلة الكفاح والحرية

      

دار الكذب، وصار مصوغاً لكل ناطق، حيواناً كان أو بشراً، وحوّل أبناء العامة إلى لقمة سائغة في أفواه ذوي الخيال الواسع ممن يشطحون بالصالحين وأسلافهم وأحفادهم وأسلاف وأحفاد أحفادهم حتى الجيل السبعين بعد الألف الثاني، سالفاً وحفيداً.

توافق تاريخ موسى مع السعي الدائب لعبيد فرعون في قمة عهده إلى العتق وسجل التاريخ عتقهم بعد سبعين عاماً ونيّف من ذلك التاريخ. وقد تصادف موت عيسى مع السعي الدائب لعبيد روما في قمة عهدها للعتق قبل ألفي عام من الميلاد حين صلب سبارتاكوس في قلب الإمبراطورية الرومانية نفسها، ولم تقم القيامة حينها ولم تقعد.

وترافقت سيرة الصالحين مع أعلى مراحل التعبير التجاري والاجتماعي، وسجلت اللغة أرقى ملاحمها الشعرية عند العرب وسبق ذلك ألف دعوة لتحرر الإنسان من أخيه الإنسان وتلته ألف وخمسمائة عام دون تحرر الإنسان من غريمه الإنسان، الخيال يشطح وعمر صالح خمسة عشر ألف عام وأسلافه وأحفاده أحرار ليوم واحد وعبيد لألف عام.

كان يريد الانعتاق، تمنى رؤيته ولو ليوم واحد بعينه الوحيدة وبعدها لا يهم إن بتروا ساقه أو ذراعه أو حرموه من نعمة العقل والمنطق الذي حار به منذ ولادته وجعله أقرب إلى الجنون من الحكمة والتعقل ليس بالنسبة للناس المقربين منه فحسب بل وحتى لنفسه أيضاً، تلك النفس التي طالما أنّبته على ما ينضح به من تفكير لا يرد بخاطر أو بال.

أخذت أفكاره العبقرية تدفعه إلى مزيد من مغادرة بيت الصفيح، لكن إلى أين؟ كأنه يدرك حاجته إلى بيئة يستطيع فيها تحقيق رغبته في التحرر والانعتاق، ولم يكن هناك سبيل لتحقيق ذلك إلا بوصوله إلى الحدود وما فيها من مساحة يتحرر فيها الإنسان من أخيه الإنسان. بحث عنها وسأل حتى دُل عليها وقال في نفسه أن لا بد من الوصول إلى هناك.

أخذ يكرر ذلك وهو ينتقل من قرية إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى حتى وصل إلى منطقة الحدود وهو برفقة أحد الفلاحين الذي أعاره حماراً شبيهاً بالجيفة التي رآها عند دخوله المخيم أول مرة.

ركب صالح الحمار حتى ضحك من نفسه وهو ينظر إلى ظله ويفكر بصمت، ولما باغته الفلاح مبتسماً مسهباً في النظر إليه شعر بالمهانة وأراد معرفة السبب الذي يضحك الراكب على حماره ليبطل العجب، فذكره بالمثل القائل إن الضحك بدون سبب من قلة الأدب.

أجابه صالح بأنه سيكون من الصعب عليه التعريف بهوية الشخصين اللذين يفكر بهما وهو على هذه الحال، فأجابه الفلاح وكان مهذباً جداً ولبقاً حين قال "قد لا أعرف من هما الشخصان اللذان يضحكك التشابه بيني وبينهما، أما أنت فما أكثر التشابه بينك وبين من تركبه مع أنه يمتاز عنك بأن له عينين ورأساً يفكر به أما الباقي فكل ما فيه ينطق بأنكما توأم. وكل إناء بما فيه ينضح".

"كل إناء بما فيه ينضح"، كرر صالح هذه الكلمات بطريقة جوفاء خلف القروي ببطء شديد وكأنه موظف في وكالة الغوث على وشك التقاعد، وهو يركز على لفظ مخارج الأحرف بطريقته الروتينية المملة أمام أحد اللاجئين. أعاد تكرار المثل مرة بعد أخرى حتى ظن القروي أنه يعنيه بما يقول، فرمقه بنظرة ازدراء وتوعد لم يتنبه إليها صالح، ولو أدرك معناها الفعلي، لعاد أدراجه على الفور متخلياً عن فكرة الانعتاق بكاملها.

ظن صالح أنه سيعيد كتابة التاريخ من بدايته عبر هذه الرحلة وكان مصمماً عليها تصميم سبارتاكوس الذي ذهب إلى روما وخلفه جيش من العبيد ليحارب من أجل انعتاقهم رغم أنه كان على قناعة شبه أكيدة بعقم مسعاه وربما شُبّه له أنه سيصلب قبل سبعين عاماً ويزيد من ميلاد السيد المسيح.

قبل صالح الإهانة بصمت وعاد ليعتكف وينكفئ على ذاته فطأطأ رأسه حتى كاد يبدو كأنه يعد شعيرات صدره الثلاث وغاص في التفكير حتى غرق في نوم عميق. لاحظ القروي ذلك فنزل عن دابته دون أن يوقفها ولف لجامها على عنقها ثم أمسك بلجام دابة صالح بعد أن تأكد من نومه، واقتادها ببطء وبحركة نصف دائرية واسعة نحو الاتجاه المعاكس.

ترك الدابة تتابع مسيرتها معتمدة على غريزتها في معرفة طريق العودة نحو نقطة الانطلاق حيث منزل القروي، في حين تابع هو رحلته لقضاء الحاجة التي ذهب من أجلها إلى القرية الحدودية المحاذية لوطنه والمطلة على القرى والمدن التي أجبرت أمه وأمته على مغادرتها.

لم يكن من السهل قبول المرء بمهانة كهذه، لقد شُبه بالحمار، خاصة أن المهانة قد أتته من شخص ربما يتحرر يوماً ما بفضل الكفاح العتيد الذي كان صالح ينوي القيام به حال وصوله إلى الحدود. كان يتساءل في نفسه إن كان هناك أي مكافح عبر التاريخ القديم أو الحديث قد شُبّه بحمار كما حصل له وهو في طريق كفاحه لكسب الحرية والانعتاق.

تذكر عذابات العبودية التي تعرض لها سبارتاكوس ثم قارنها بملاحقة الفراعنة لموسى وما تعرض له عيسى على يد روما وما أصاب محمداً عليه الصلاة السلام وأتباعه الصالحين من تنكيل على أيدي الكفار في الجزيرة العربية.

خشي أن تكون نهايته شبيهة بنهاية سبارتاكوس، فهو الوحيد الذي تعرض لمثل هذا المساس بكرامته. لكنه عاد كأنه يطمئن نفسه بخاطرة أعادت له ثقته بالنفس وزادت من عزيمته حيث فكر بأن القضايا التي تنتصر تحمي أصحابها وتحفظ ماء وجوههم فلا يتحدث التاريخ عن الإهانات التي تعرضوا لها.

كما ينطبق عكس ذلك على القضايا المهزومة الفاشلة فيهزأ الجميع بحاملي راياتها ويحولهم التاريخ إلى مجرد معتوهين يحلمون بمقاتلة طغيان طواحين الهواء كما هي حال دون كيشوت، ومن يصحون وهم يتلمسون قرار خازوق دق في الأرض ووصل إلى غلاف الأوزون فعانق السماء ليجتمع بعائلة سعيد بن نحس المتشائل ويتساوى الكل بالكل دون استثناء.

ما كاد ينتهي من هذا التفكير حتى أصابته القشعريرة لمجرد تصور نفسه بحالة مشابهة، بعد نضال مرير سيبدأه، حال وصوله إلى الحدود. الحدود، ما أجمل هذا التعبير، كأنه الحد الفاصل بين العزة والمهانة، فمن يعبر الحدود ينعتق ويستعيد كرامته، ومن يأبَ ذلك يبقَ "أبد الدهر بين الحفر".

وكم كان سعيداً لأنه سيصل إلى هناك خلال وقت قصير بل ربما وصل إذ كان يسمع كأن حشوداً من الناس أخذت تتراكض نحوه وتلفظ اسمه وكأنها تعرفه مستغربة أن يكون قد وصل. كأن شهرته وسمعته وصلتا قبله إلى هناك، كأن الناس يتوقعونه وقد أصبح له أتباع يرافقونه وينضمون إليه في مسيرته عبر الحدود نحو الحرية.

تعالت الأصوات وبدت أكثر اقتراباً بل شعر كأن الأيدي أخذت تهزه وتتجاذبه، وحين راودته الرغبة في الابتسام للجموع وجد نفسه مرمياً على الأرض والكل يسأله عن القروي الذي كان برفقته وما حلّ به ولماذا عاد وحده، وهل خطف على الطريق أم سلّمه للعملاء وعاد ليأخذ غيره.

انطلقت الأيدي والأرجل والعصي وطالت رأس صالح ونالت من كبريائه وعزمه على الكفاح من أجل انعتاق المحرومين في الأرض حتى إنه في لحظة ضعف تساءل إن كان هؤلاء الأوباش يستحقون أن يرمي، هو أو أي شخص مثله، نفسه بالمهالك من أجل حثالة من الرعاع أمثالهم.

كانت تلك آخر بنات أفكاره العبقرية قبل أن يغمى عليه تحت وابل من العصي واللكمات وتزاحم الأفكار والتساؤلات والألغاز التي لم يجد مخرجاً لها. شعر بأنه بحاجة إلى مليون تفسير. فكيف يُستقبَل مناضل مثله بهذه الحفاوة عند الحدود من قبل عائلة صاحب الحمار والأشخاص الذين ودعوه قبل ساعات في مناطق بعيدة عنها؟ وكيف تكون مراسم الاستقبال لدى الأحرار على هذه الدرجة من القسوة والتخلف؟

كانت خيبة الأمل الأولى التي يعاني منها وهو يظن أنه صار فعلاً على الحدود. وكانت خيبة أمله الثانية حين تأكد أنه في ديار ذلك القروي يسبح في حوض من الوحل وبراز الدواب ويتعرض لحمام ماء بارد أمام جموع محتشدة يسهم جزء منها بجلب الدلو تلو الآخر فيسكبونه على رأسه ووجهه حتى يصحو.

وما كاد يستيقظ من نومه العميق حتى باغته الجميع بالسؤال عن رفيق دربه. قالوا إنه وصل وحده قبل أكثر من ساعات ثلاث وإن عليه أن يعطي تفسيراً لغياب رفيقه ليتمكنوا من العثور عليه قبل المغيب.

اتهمه بعضهم بالخيانة وآخر بالعمالة وثالث بالتجسس لصالح الأعداء. وشطح خيال الحشود المحتشدة ودار التلفيق وصار مصوغاً لكل ناطق، فتحول العامة إلى لقمة سائغة في فم ذوي الخيال الواسع، وصار صالح طالحاً وحكم عليه بالإعدام أمام الجموع ليكون عبرة لمن يعتبر، وبكت عليه قلة قليلة ممن لا يهوون سفك الدماء ولا يؤمنون بذبح الإنسان لأخيه الإنسان.

اقترب منه أحدهم وقال: يا صالح... لقد تضرّعت إلى الله تعالى ودعوته أن يخفف عنك عذاب الموت. كان الداعي أشعث الشعر ضئيلاً شاحب الوجه وله عين واحدة فقط وكأنه نسخة طبق الأصل عن صالح، حتى إن هذا شعر لحظة وسط الركلات القادمة من اتجاهات متعددة، شعر كأنه ينظر في المرآة ويرى ذاته.

قبل أن يبتعد عن الجموع تمكن صالح من تخليص فمه من اللكمات وأجابه لا أدري إن كان الله سيقبل دعاء أمثالك من غير الطاهرين، وإلا لكانت حالك أقل بؤساً من حالي حين يخفف عنك عذاب الحياة، لذا أرجو أن تحمل دعاءك وتسخّره لنفسك، أما أنا فسوف أرى كيف أتدبر أمري حتى يقضي الله أمره فلا يعود أمامي إلا عذاب الآخرة.

 

=-=-=-=-=-=-=-نهاية الفصل الحادي عشر.

© 2004-2009. All Rights Reserved-كافة الحقوق محفوظة للمؤلف

هذيان الواقع

 

[محتويات]  [إهداء]  [شكر]  [مقدمة] 
[الفصل الاول]  [الفصل الثاني]  [الفصل الثالث]  [الفصل الرابع]  [الفصل الخامس] 
[الفصل السادس]  [الفصل السابع]  [الفصل الثامن]  [الفصل التاسع]  [الفصل العاشر] 
[الفصل الحادي عشر]  [الفصل الثاني عشر]  [الفصل الثالث عشر]  [الفصل الرابع عشر] 
[ملاحظات وعتاب] [كلمة حفل التوقيع]  [كلمة وزير الثقافة] 
[نص الوكالة اللبنانية للأخبار]  [نص جريدة المستقبل]  [كلمة رفعت شناعة]  [نص جريدة الديار] 
[نص جريدة البيرق]  [نص جريدة اللواء]  [نص جريدة البلد]  [نص جريدة الشرق] 
[كلمة سلوى سبيتي]
  [كلمة د.نبيل خليل]  [صحيفة صدى البلد] 
[حفل توقيع الكتاب في بيروت]  [حفل توقيع الكتاب في صيدا] 

 

 
 
 
 




Hit counter
ابتداء من 20 آب 2005

 

 

 

 

 

من نحن | | إبدي رأيك | | عودة | | أرسل الى صديق | | إطبع الصفحة  | | اتصل بنا | | بريد الموقع

أعلى الصفحة ^

 

أفضل مشاهدة 600 × 800 مع اكسبلورر 5

© جميع الحقوق محفوظة للمؤلف 1423هـ  /  2002-2012م

Compiled by Hanna Shahwan - Webmaster